المشاركات الدولية

مداخلة فاطمة الزهراء البلغيتي في ندوة الحزب الاشتراكي الموحد فرع فرنسا

نظم الحزب الاشتراكي الموحد – فرع فرنسا، بتاريخ 23 ماي 2020 ندوة رقمية بعنوان” لماذا اقتصادنا ضعيف؟، وقد شاركت بهذه الندوة بمداخلة تناولت فيها:

الخيارات الاقتصادية الاستراتيجية للدولة منذ الاستقلال إلى اليوم، مع الاجابة عن أسئلة من قبيل: كيف تساهم المؤسسات المالية والمديونية في إضعاف سيادة الاقتصاد المغربي؟ أي دور للاستثمارات الأجنبية المستفيدة من امتيازات ضريبية كبيرة؟ وما البديل التنموي الكفيل بتحقيق تطلعات الشعب المغربي؟

الاستراتيجية الاقتصادية للدولة ما بعد “الاستقلال” إلى اليوم في خدمة من؟

ركزت استراتيجية الدولة، ما بعد الاستعمار، على تنمية اقتصاد السوق وتوفير كل الشروط المواتية لإرساء هيمنة الرأسمال الخاص، ويعد هذا الخيار الاستراتيجي ركيزة نموذج التنمية الاقتصادي. ومنذ ذلك الحين أشرفت الدولة في قطاع الفلاحة وعبر جملة قوانين على تسهيل سيرورة الاستحواذ على الأراضي الفلاحية، ما بعد الاستقلال الشكلي، وتركيزها في يد كبار المستثمرين وتهميش الفلاحين الصغار. وتشكل سياسة السدود التي امتدت ما بين 1965 إلى بداية الثمانينيات شكل هذه السياسة البارز، وعلى المستوى الصناعي انخرطت الدولة في تهيء بنية تحتية صناعية، ببناء شبكة للطرق والمواصلات، من موانئ ومطارات، واستهدفت هذه الاستثمارات العمومية للدولة تخفيض التكلفة لصالح الاستثمارات الخاصة مما سمح للرأسماليين الخواص بتحقيق الأرباح ومراكمتها، وطبقت سياسة مكرو-اقتصادية جعلت المالية العمومية في خدمة الرأسمال الخاص، عبر تفويت الصفقات العمومية لأصحاب الرساميل، وسن نظام ضريبي غير عادل يعفي الخواص ويحمل ثقل النفقات الضريبية لأقسام الشعب المغربي الفقيرة. وواصلت الدولة نهجها الليبرالي بتحرير الأسعار والأسواق عن طريق نزع التقنين والضبط، واتسع بذلك المجال أمام المستثمرين الخواص للرفع من هوامش أرباحهم، ورغم تبني هذه التوجهات الاستراتيجية، لم تستطع الدولة بناء اقتصاد منفك من التبعية للخارج، واستمرت علاقات التبادل غير المتكافئ، والاعتماد في التصدير على منتجات فلاحية، منجمية وبحرية ضعيفة القيمية، واستيراد مواد مصنعة عالية القيمية بالمقابل، وتنعكس هذه التبعية في العجز البنيوي للميزان التجاري وميزان الأداءات، واللجوء للاقتراض كآلية للتمويل، ما ينتج عنه الخضوع الدائم لشروط  المؤسسات المالية  والدائنين.

لم تسع الدولة في سياستها الاقتصادية إلى توجيه استثماراتها لتلبية الحاجيات الاجتماعية الأساس للشعب المغربي، وبخاصة ضمان الولوج الواسع للتعليم وخدمات الصحة وخلق مناصب شغل قارة وتوفير غذاء صحي وتجهيز القرى ببنى تحتية جيدة تكفل لسكناها بلوغ كل أنواع الخدمات الأساس، واستمر ضعف القدرة الشرائية لدى فئات واسعة من الشعب المغربي. ويعبر توالي احتلال المغرب لمراتب متأخرة حسب تقارير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي عن ضعف مستوى التنمية، حتى مقارنة ببعض بلدان المنطقة ذات الوضع الاقتصادي المماثل. تكشف هذا الحصيلة عواقب السياسات الليبرالية التي نهجتها الدولة بمباركة المؤسسات المالية الدولية، والتي سمحت في واقع الأمر للأقلية المسيطرة بالاستحواذ على معظم الثروة المنتجة.

 

المؤسسات المالية الدولية.. أدوات لإدامَةِ تبعية اقتصاد البلد وتخلفه

تعد المؤسسات المالية الدولية أدوات هيمنة. وهي غير ديمقراطية في بنيتها، وتدافع عن مصالح الرأسمال العالمي، وتسهر على إدامة تبيعة البلدان ذات الاقتصادات الضعيفة لدول المركز، كما تدعم هذه المؤسسات استثمارات الشركات متعددة الجنسية. وكان أول تدخل لمؤسستي صندوق النقد الدولي والبنك العالمي في الشؤون الداخلية للمغرب سنة [1]1964 على إثر الأزمة المالية الناتجة عن تدهور الوضع الاقتصادي المغربي[2]، وحررت هذه المؤسسات آنذاك تقريرا يوصي بوضع برنامج يعطي الأولوية للاستثمار في البنية التحتية الاقتصادية[3]، وتشجيع القطاع الخاص عبر نظام ضريبي يمنح امتيازات للاستثمارات الخاصة، مما جعل الدولة تلجأ لتخفيض الضريبة على مداخيل الشركات، مقابل الحفاظ على ارتفاعها فيما يخص الدخل[4]، وإرساء اقتصاد تصديري لجلب العملة الصعبة.

أثبت الرهان على توجيهات المؤسسات المالية فشله، حيث أدت استراتيجية تنمية بنية الرأسمال الخاص إلى لجوء المالية العمومية المتزايد للديون، إذ انتقل جاري الدين سنة 1974 من 12 % إلى 37 % سنة 1977 ليصل في 1983 إلى 118% نسبة إلى الناتج الداخلي الخام[5]، وترافق هذا الوضع مع تضرر الصادرات بصورة كبيرة بسبب التوقعات القاتمة حول الاقتصاد العالمي في نهاية سنوات السبعينيات، وانخفاض أسعار الفوسفاط بعد الارتفاع الظرفي الذي سجل في 1974[6]. وأمام ارتفاع حجم الدين العمومي عجزت الدولة عن السداد، وتدخلت المؤسسات المالية عن طريق فرض برنامج التقويم الهيكلي ما بين 1983 و 1993، والذي يشترط تقليص عجز الميزانية عن طريق خفض ميزانية الاستثمارات العمومية، ونزع تقنين الأسعار وإلغاء دعم مواد الاستهلاك الأساس، والحد من التوظيفات في القطاعات الاجتماعية وخوصصة الخدمات العمومية، وستواصل الدولة توجهاتها النيوليبرالية موازاة مع انخراط المغرب في منظمة التجارة العالمية سنة 1995، وابرام اتفاقيات التبادل الحر وتوفير كل الشروط للشركات متعددة الجنسية لمراكمة الأرباح وترحيلها.

كيف تؤثر المديونية على سيادة البلد

تحتل المديونية مكانة بارزة في الحفاظ على نفس علاقات التبعية، وهي بمثابة شكل استعماري جديد، وعن طريقها ترحل الثروات إلى جيوب الدائنين، ولا يمكن لبلد مدين أن يقرر بصورة أحادية وسيادية سياساته الاقتصادية دون تدخل الدائنين بمعية صندوق النقد الدولي والبنك العالمي. كما يعد المغرب من بين البلدان التي ورثت دينا استعماريا، وقد سدد مجمل الديون المبرمة ما بين فترة 1906 و1956[7]، والحال أن هذه الديون لاغية بموجب المادة 16 من معاهدة فينا 1978 المنظمة لقانون المعاهدات والتي تقول ما يلي” الدول التي استقلت حديثا غير معنية بالمعاهدات التي أبرمت إبان فترة الاستعمار وفور مجيء الدولة الجديدة فإن المعاهدات تصبح لاغية.ولحدود اليوم يجري فرض توازنات مكرو-اقتصادية تقضي بتخصيص القسم الهام من موارد الميزانية العمومية لأداء الديون، وذلك على حساب تلبية الحاجيات الأساس في القطاعات الاجتماعية الحيوية. وتساهم المديونية في اغتناء الدائنين من مالكي سندات الخزينة بالنسبة للدين الخارجي أو الداخلي، وهي سندات مضمونة السداد، وليست المديونية مجرد رقم تقوم الدولة بتدبيره كما تبين في تقاريرها الرسمية، بل نظام سيطرة يُخضع سيادة البلد لمصالح الدائنين، بحيث يشترط هؤلاء عند كل عملية اقتراض شروطا مجحفة. فلقاء الاستفادة من خط الوقاية والسيولة الذي منحه صندوق النقد الدولي للمغرب، يجب القيام بتدابير تقشفية تتعلق بتقليص كثلة الأجور من خلال ضرب أنظمة التقاعد وفرض التشغيل بالعقدة وتحرير العملة. كما تُفرض مشاريع بصورة غير ديموقراطية، وهي عديمة الجدوى بذريعة “التدبير النشيط للديون”. وقد بلغ حجم الدين العمومي 926 مليار درهم سنة 2019، وتمتص خدمة الدين لوحدها (الدين الأصلي والفوائد) 140 مليار درهم أي ما يعادل عشرة أضعاف ميزانية الصحة [8]. وتستغل الدولة تدابير مواجهة تداعيات جائحة كورونا لإبرام قروض جديدة، وهكذا جرت المصادقة على مرسوم قانون رقم 2.30.320 والذي يسمح للحكومة بتجاوز سقف الاستدانة الخارجية المحدد في 31 مليار درهم وفق قانون المالية 2020، واستخدام خط الوقاية لدى صندوق النقد الدولي بسحب 3 مليار دولار[9].

يقتضي الخروج من الحلقة المفرغة للديون اتخاذ قرارات سيادية أحادية الجانب تطالب بوقف السداد إلى حين إجراء عملية التدقيق، وهو ما يتطلب إنتاج تحاليل بديلة لتوجهات الحاكمين والمؤسسات المالية، والعمل في نفس الآن من أجل حفز تعبئات شعبية حول ضرورة النضال ضد المديونية، والذي يترافق مع النضال من أجل ديمقراطية فعلية تقوم في جوهرها على تحقيق العدالة الاجتماعية والبيئية والمساواة.

ماذا يستفيد الاقتصاد المحلي من الاستثمارات الأجنبية رغم الامتيازات الضريبية التي تحظى بها؟

تأتي هذه الاستثمارات كنتيجة لسياسات المؤسسات المالية التي تدفع نحو مزيد من فتح السوق الداخلية أمام الرساميل الأجنبية، وتقوم الدولة من جانبها بتوفير كل الشروط المواتية لجلب هذه الاستثمارات عن طريق نظام ضريبي تحفيزي، كما تجهز بنية تحتية ويد عاملة رخيصة يضمنها قانون شغل يرعى فرط الاستغلال، وجزء كبير من هذه الاستثمارات لم  يجر توجيهه نحو مشاريع إنتاجية جديدة، بل للاستحواذ على القطاعات المربحة عقب سياسات خصخصة الدولة للشركات العمومية والخدمات العمومية، وفوتت خدمات الماء والكهرباء والنقل الحضري وجمع النفايات لشركات أجنبية، عن طريق التدبير المفوض، وقد بينت احتجاجات طنجة ضد شركة أمانديس (2015) أن المستفيد من هذه الاستثمارات هو الشركات متعددة الجنسية، التي تراكم الأرباح وترحلها  لقاء خدمات رديئة وعالية التكلفة.

وتبقى بعض الاستثمارات التي تدرجها الدولة ضمن الاستثمار في التكنولوجيا العالية عبارة عن ترحيل أجزاء فروع صناعية من مواطن انتاجها الأصلية لتخفيض تكلفة الإنتاج، وتعد المناطق الحرة بطنجة إحدى الأمثلة التي تكشف حقيقة الاستثمارات الأجنبية، والتي تحظى بمزايا ضريبية كبيرة، ويمكن لها ترحيل الأرباح في أي لحظة دون أية قيود، ولا تعود هذه الاستثمارات على اقتصاد البلد بأي نفع، خاصة على مستوى تقليص العجز البنيوي للميزان التجاري وميزان الأداءات، كما أنها مكلفة بيئيا، ويتكبد المغرب جراء التهرب الضريبي للشركات متعددة الجنسية خسارة مالية تبلغ  2.45 مليار دولار سنويا [10]

انتصار الانتفاضات الشعبية شرط ضروري لفرض بديل تنموي يستجيب لتطلعات الشعب المغربي

تعبر الحراكات الشعبية التي يعرفها المغرب بين الفينة والأخرى عن رفض قسم كبير من المغاربة لنموذج التنمية النيوليبرالي الفاشل، وتعد هذه النضالات جزءً من حل لمشكل التنمية الظالم الذي تقوم بتنزيله الطبقات المسيطرة بدعم من المؤسسات المالية الدولية. ويجب علينا ونحن ندافع عن بديل تنموي حقيقي يضمن الكرامة والعدالة الاجتماعية الانخراط في كل الحراكات الشعبية، وتوسيع التضامن بين كل المناطق لصد ضربات القمع.

عينت الدولة وبنفس الأساليب المألوفة لجنة وضع نموذج تنموي جديد، وتريد، بصورة استباقية، احتواء الغضب الشعبي الآتي من الأسفل واستعادة زمام المبادرة، مع الإصرار على رفض إطلاق سراح معتقلي حراك الريف ومواصلة حملات القمع والتضييق على الحريات الديمقراطية. وتعد الاستشارات الواسعة التي تجريها الدولة اليوم حول نموذجها التنموي مجرد سعي جديد لتحقيق الاجماع المعهود، وتلافي انتقادات تقارير منظمات دولية تؤكد تعاظم الفوارق الاجتماعية وانتشار الفقر و البؤس. وتشير منظمة أوكسفام في تقريرها الصادر في 29 أبريل 2019 حول البلد بعنوان ” ضريبة عادلة من أجل مغرب منصف” إلى أن المغرب يبقى البلد الأكثر افتقارا للعدالة الاجتماعية في شمال افريقيا، و ضمن نصف البلدان التي تعاني بصورة كبيرة انعدام المساواة على مستوى الكوكب، ويملك تلاث أغنى مليارديرات المغرب لوحدهم ثروة تقدر ب 4.5 ميار دولار، أي ما يعادل 44 مليار درهم، بينما يعيش 4.2 مليون شخص في الفقر، ويعاني 1.6 مليون شخص من انعدام الضرورات الأساس [11].

يجب أن يرتبط أي بديل تنموي بتطلعات الشعب المغربي، وأن يكون مستقلا عن املاءات المؤسسات المالية، وأن يرتكز على بناء اقتصاد يلبي الحاجيات الإنسانية ويحترم الطبيعة ويقطع مع منطق السوق والتسليع. نحن في جمعية أطاك المغرب نرى أنه لا تنمية حقيقة دون الغاء المديونية واتفاقيات التبادل الحر، اللتان نعتبرهما من آليات الاستعمار الجديد، كما نرى ان أولويات البديل التنموي يجب أن تتجسد في ضرورة توفير نظام صحي عمومي مجاني وجيد.

من هنا المطالبة بالرفع من ميزانية الصحة العمومية، والتراجع عن كافة القوانين التي تدمر الطابع المجاني لهذا القطاع وتجعل منه مجالا للاستثمار، ويكتسي ضمان تعليم عمومي جيد ينبني على المساواة مكانة محورية، لذا بات ضروريا وقف تفكيك مجانية التعليم العمومي وفصله عن متطلبات السوق، وجعله في خدمة الحاجيات الإنسانية، ويبتغي اكساب المتعلمين والمتعلمات معارف وقيم التحرر والتضامن الجماعي، وفق مضامين ومناهج تقوم على نبذ كل أشكال القهر والاضطهاد والعنف والعنصرية. كما لا بد أن تنطلق التنمية من ضرورة تحقيق سيادة الشعب المغربي على أرضه وما يرتبط بها من خيرات فلاحية وبحرية وطاقية ومعدنية، والقطع مع النمط الاستخراجي بالاستعاضة عنه ببديل مستدام بيئيا ونسوي؛ يضمن الحقوق الديمقراطية للنساء، ويقوم على الاقتسام العادل للثروات. ولا يمكن أن يكون هذا البديل الا نتاج أشكال وآليات ديمقراطية واسعة تجسد فعليا آمال وقرارات الأقسام العريضة التي سحقتها سياسات الحاكمين وبرامج المؤسسات المالية لعقود طويلة.

فاطمة الزهراء البلغيتي

الكاتبة العامة لجمعية أطاك المغرب

 

[1] Najib Akesbi, Economie politique, et politiques économiques au Maroc, Revue Marocaine des Sciences Politiques et Sociales, Horrs Série, Volume xiv, Avril 2017

[2] idim

[3] idim

[4] idim

[5] Mohamed Said Saadi, Réformes néolibérales, groupes d’affaires et développement au Maroc, Revue Marocaine des Sciences Politiques et Sociales, Horrs Série, Volume xiv, Avril 2017

[6] idim

[7]  أنظر المقال على موقع جمعية اطاك المغرب بالعربية:  https://attacmaroc.org/مسألة-الديون-العمومية-موكولة-إلى-الشع/

[8]  انظر بيان اطاك المغرب على الرابط التالي:  https://attacmaroc.org/بيـــــــان-لا-لاستغلال-جائحة-كور/

: انظر نفس رابط البيان أعلاه [9]

[10]  https://arabic.oxfam.org/latest/press-release/يتقاضي-أجير-بالمغرب-في-154-سنة-ما-يتقاضاه-ملياردير-في-12-شهرا

[11]  نفس المرجع: أنظر التقرير الشامل بالفرنسية على الرابط:   https://oi-files-d8-prod.s3.eu-west-2.amazonaws.com/s3fs-public/file_attachments/rapport_oxfam_2019_un_maroc_egalitaire_une_taxation_juste.pdf

 

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى