الهجرة

السياق النيوليبرالي لسياسات الهجرة الدولية

السياق النيوليبرالي لسياسات الهجرة الدولية .

مقدمة

يتطلب فهم منطق السياسات المتعلقة بالهجرة في السياق الحالي، تعرف سيرورة تطور الرأسمالية على المستوى العالمي. فكل السياسات التي تقيد حركة الأفراد في شكل اتفاقيات وبرامجَ صارمة، هي نتيجة لدينامية واكبت تحقيق التراكم الاقتصادي للدول الصناعية، لتلعب ادوارَ تنسجم والاديولوجية النيولبرالية.

أصبح العالم اليوم على نحو ظالم وغير عادل متاحا أمام أفرادَ ومواطنين من دول الشمال، يتجولونه  بكل حرية، بينما يحرم فقراء ومواطنو دول الجنوب من هذا الحق . لقد أجبر فقراء دول الجنوب نتيجة سياسات الهجرة على الموت، سواء داخل أوطانهم، التي صارت مقابر جماعية نتيجة الفقر، الجوع و الحروب، أو بسبب مسارات طويلة مليئة بالمغامرة والمخاطر.

اليد العاملة المهاجرة من دول الجنوب: من الحاجة لتنمية البلدان الصناعية إلى الحاجة لإنعاش الاستثمارات الأجنبية ببلدان المنشأ.

عُرفت عدد من الدول الرأسمالية الصناعية،  كدول كلاسيكية من حيث استقبالُها للمهاجرين. ارتبط توافد هؤلاء بداية بحاجتها- إبان فترات الاستعمار المباشر وبعده-،  لليد العاملة.  كان لحجم التراكم الناتج عن فرط استغلال ثروات المستعمرات، وكذا الحاجة لتجاوز الدمار الذي خلفته الحرب العالمية الثانية، أن فرض على الامبرياليات الاستعمارية  فتح حدودها لاستقبال أفواجَ من مهاجري المستعمرات. كانت الغاية من وراء هذا الاستقبال المكثف لليد العاملة المهاجرة، انعاش اقتصادات القوى الاستعمارية، المستغلة لمآسي سكان المستعمرات،وحاجتهم للمغادرة، ومن ثم قبول العمل في مهن صعبة وشاقة، وبأجور هزيلة قياسا بالمواطنين الأصليين لهذه البلدان.

هكذا وارتباطا بهذا السياق، بلغ عدد المهاجرين الوافدين على بريطانيا  في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية 35.000 مهاجر. فقد استقبلت هولندا من مستعمراتها 300.000 مهاجر اندونيسي ما بين 1945 وبداية 1960. وتواصل مسلسل استقبال موجات الهجرة التي وصلت أوجها سنة 1970؛ إذ استقبلت فرنسا وحدها 600.000 جزائري و140.000 مغربي و90.000 تونسي، إضافة إلى عدد كبير من المهاجرين القادمين من غرب إفريقيا كالسينغال، مالي وموريتانيا.[1]

تمكنت معظم تلك الدول، بفضل هذه اليد العاملة وتضافر عوامل أخرى، من تحقيق رخاء اقتصادي، فتراكمت فوائض الانتاج، كما تضخمت الرساميل، وانتعشت الاستثمارات، فصارت معظم الدول المستقبلة للمهاجرين في حاجة لتصدير رؤوس أموالها خارج الحدود. أصبح عدد من الاستثمارات التي كانت تستوعب المهاجرين تطمح للتوسع وعبور الحدود نحو وجهات استثمارية تتوفر فيها الشروط اللازمة لتحقيق مزيد من التراكم. وهكذا كانت وجهتها دول الجنوب من المستعمرات السابقة لعدد من هذه الامبرياليات.

تراجعت نتيجة ذلك الحاجة للعمال المهاجرين،  وانضافت إلى ذلك عوامل أخرى ارتبطت بالثورة  التكنولوجية التي ساهمت في خفض الحاجة إلى العمال اليدويين في الصناعة والمهن التقليدية. كما ساهم التزايد السكاني لمعظم هذه الدول المستقبلة لموجات الهجرة كذلك في خفض الحاجة للعمالة الأجنبية،(باستثناء دول أخرى مثل كندا ونيوزيلاندا اللتان لا زالتا تعانيان من نقص شديد في السكان). وهكذا توقفت ألمانيا عن تشغيل العمالة الأجنبية سنة 1973[2]، وأعقبتها بعد ذلك عدد من بلدان أوربا الغربية. صارت حركة تنقل الأشخاص تجري بانتقائية شديدة في عدد من البلدان ككندا.على نفس المنوال الذي تتبعه هذه الأخيرة يجري تنفيذ نفس السياسات في أوروبا وأستراليا وأمريكا الشمالية بشكل عام.[3]

سيسمح عدم مغادرة اليد العاملة خارج الحدود بتوفير جيوش احتياطية، تقبل مضطرة العمل في شروط أكثر مرونة وبأجور هزيلة، تتغذى من سوء الأوضاع الاجتماعية بدول الجنوب. يمضي هذا السياق في صالح رؤوس أموال عدد من الدول الصناعية الباحثة عن مجالات للاستثمار، لتحقيق مزيد من الأرباح ومعه مزيد من التفاوتات بين دول الشمال ودول الجنوب.

وفي وقت تمارس فيه عولمة الأسواق ضغطًا هائلًا لتحرير تنقل رؤوس الأموال و الاستثمارات، وتضع الآليات اللازمة لذلك،(منظمة التجارة العالمية- صندوق النقد الدولي- البنك العالمي)، تفرض قيودا صارمة في شكل سياسات هجروية، تقيد الهجرة من دول الجنوب المتزايدة باسم السيادة الوطنية.

تصاعدت – أمام هذه السياسات  المكبلة لحرية التنقل- حدة الأزمة الاجتماعية في عدد من دول الجنوب خاصة في فترة الثمانينيات، و فشلت مخططات التنمية في كثير من المناطق التي كانت خاضعة للاستعمار، إضافة إلى تسارع  وتيرة النمو السكاني، وعدم الاستقرار السياسي و الأمني، وتدني المستوى المعيشي و الفقر لحد المجاعة. أجبرت هذه الصورة التي وسمت عصر العولمة – رغم كل سياسات المنع- الناس على الهجرة والتنقل، لكن بصورة أكثر دراماتيكية متمثلة في الهجرة السرية، كنتيجة لتقييد حرية التنقل وتشديد الحراسة على حدود الدول المرشحة لاستقبال موجات المهاجرين خاصة الأوربية منها.

خلاصة

ويمكن القول إجمالا إن سياسات الحد من تدفق موجات المهاجرين من دول الجنوب باتجاه الشمال، موجهة بهذا السياق العالمي. إن البلدان الصناعية تتعاطى مع الهجرة بناء على سيرورة التراكم الرأسمالي وحاجته لليد العاملة؛ إذ صارت هذه الحاجة في الوقت الراهن تجري بانتقائية شديدة لفرز اليد العاملة ذات الكفاءات العالية. و يعني ذلك أن النيوليبرالية تريد الابقاء على اليد العاملة التي تعتمد قوتها العضلية داخل دول الجنوب لتمثل يدا عاملة  جاهزة لخدمة الاستثمارات العابرة للحدود من دل الشمال باتجاه الجنوب.

بقلم: ربيعة الهواري

[1]ستيفن كاستلر،ماركميللر، ترجمة منى الدروبي، عصر الهجرة، دار النشر: الهيئة العامة للشؤون الاميرية، الطبعة 2013 ص:254

[2]ستيفن كاستلر،ماركميللر، مرجع سبق ذكره ص:254

[3]Véronique Deslauriers, « LA Santé des travailleurs migrants temporaires dans le  secteur agricole au Canada ».centre d’études et de recherches internationales. Redtac-(IM) Migration ,3 mai 2015 p :4

زر الذهاب إلى الأعلى