هل تشفع الأجيال القادمة جبن الأغلبية منا ؟
” ما يزعجني أكثر ليس قسوة الظالم و لكن تواطؤ المظلومين” (مارتين لوتر كينك)
كنت دائما أقول لأصدقائي ممازحا أن سبب محنتنا اليوم و تخلفنا هو أساسا جبن الأغلبية من اجدادنا و آبائنا الذين فضلوا الاستسلام للظلم و الاستبداد و الاكتفاء بفتات المستبدين و استقرار مغشوش و ظاهري يخفي العديد من الكوارث الاجتماعية و رفضهم تحمل مسؤولياتهم التاريخية و تفويتهم الكثير من الفرص كانت ربما قد تسمح لبلادنا بقطع أشواط كبيرة بدل الحالة المتردية التي نعيشها اليوم على كافة المستويات الاقتصادية السياسية و الاجتماعية.
إذا كان المغرب من أتعس البلدان في العالم[i] فهذا راجع في اعتقادي بنسبة كبيرة إلى أن الاغلبية من أجدادنا و خاصة النخب فضلت الطرق السهلة و غضت الطرف عن تجاوزات الحاكمين. تجاوزات كانت في البداية بسيطة نسبيا و استثنائية لتصبح فيما بعد قواعد و أعرافا تخدم مصالح السلطة و تستعملها من أجل بسط سيطرتها و اسكات أي صوت حر قد يعارضها.
الأغلبية من آبائنا و أجدادنا فضلت الصمت أمام اختيارات الحاكمين الاقتصادية الكارثية و منها مثلا تفضيل “الحل السهل” أي الاقتراض[ii] من الخارج عوض خلق و ابتكار ظروف تنمية ترتكز على عوامل ذاتية facteurs endogènes فكانت النتيجة اليوم انهاك ميزانية الدولة الضعيفة أصلا بخدمة الديون التي تمتص أكثر من الثلث[iii] و كذلك فقدان لسيادتنا الوطنية لفائدة الدائنين دولا و مؤسسات مالية عالمية.
أظن أن جيلنا للأسف اليوم ليس بأحسن حال من سابقيه و ربما قد يكون أسوأ بالنظر إلى الأجواء الاقليمية و الدولية التي كانت أكثر من مساعدة من أجل بلوغ تغيير حقيقي يمكننا من إخراج بلدنا و شعبنا من سنوات التخلف. جيلنا أقدم حتى اليوم على تضييع فرصة تاريخية جديدة بعد خروجه من ربيع شعوب المنطقة بحصيلة أقل من متوسطة : دستور ممنوح مجددا مع بعض التعديلات الشكلية تفتح مجال المناورة بحكومة تصريف أعمال تدعي الإصلاح و محاربة الفساد في حين تنأى بنفسها على ازعاج الفاسدين و لا تفوت الفرصة لطمأنتهم و لو كان ذلك على حساب خيانة من صوت لصالحهم. إن الحصيلة للأسف مخيبة للآمال و لا ترقى إلى حجم التضحيات التي قدمها الشباب المغربي و الشهداء الذين سقطوا خلال الاحتجاجات التي عرفها المغرب العام الماضي و قبلهم المئات من شهداء الشعب المغربي و مناضليه الأحرار.
و قد استغرب ممن يدعي أننا قد نكون أحسن حال من أشقائنا التونسيين أو المصريين أو حتى اليمنيين و من بينهم بعض المحسوبين على الديمقراطيين الذين يدفعهم انزعاجهم من صعود الاسلاميين في انتخابات ديمقراطية أو بشكل أدق في انتخابات أكثر ديمقراطية من سابقاتها في عهد الدكتاتوريات و التي كانت كل نتائجها تقارب المائة بالمائة. لكن أعتقد أن هذه المقاربة ميكانيكية و جامدة في حين أن الأحداث التاريخية تعلمنا أن تاريخ الأمم لا يسلك بالضرورة منحى خطيا لكن الأكيد هو أن الشعوب التي عرفت تغيرات جذرية أو ثورات في تاريخها استطاعت أن تحقق قفزات نوعية على المستويات السيوسيو اقتصادية و حتى الثقافية.
في حصيلة حركة 20 فبراير
مرت أكثر من سنة و نصف على انطلاق حركة 20 فبراير، النسخة المغربية للربيع العربي و المغاربي الذي اجتاح منطقتنا و الذي انتقلت عدواه و امتدت رياحه في المكان و الزمان لتشمل مناطق أخرى من العالم و ليتواصل هذا الربيع رغم تعاقب الفصول.
الحركة محطة هامة في التاريخ الحديث لشعبنا في مقاومة أشكال القهر و الاستغلال و الاستبداد و التي بدأها أحرار الريف بقيادة “الرمز” عبد الكريم الخطابي منذ بداية القرن الماضي ضد الاستعمار الأجنبي المباشر.
إن نجاح أو فشل نضالات حركة 20 فبراير رهين لدى العديد من مواطنينا بمدى تحسن معيشهم اليومي و تراجع معاناتهم و كافة أشكال “الحكرة” السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية التي يعانون منها. و في هذا المجال أعتقد أن الحصيلة متباينة (bilan mitigé ).
ما حققته الحركة …
لا يمكن إلا لجاحد نكران المكتسبات المادية التي حققتها العديد من الفئات في المجتمع في ظل هذه الصيرورة النضالية و حتى قبل انطلاقتها في 20 فبراير من خلال ادماج العديد من مجموعات المعطلين و كذلك الاستجابة لمجموعة من المطالب العمالية، ادماج عمال السميسي .. الزيادة المهمة (زيادات هي الأعلى منذ سنين) في الأجور في العديد من القطاعات : الفوسفاط (1500 درهم) ، السكك (900 درهم) علاوة على الزيادة التي شملت كافة القطاع العام (600 درهم) … بالإضافة إلى مكتسبات معنوية لا تقل اهمية تعنى بعلاقة المواطن بالسلطة أو المخزن و تكسير جدار الخوف و اعادة تملك الفضاء العام و رفع متسارع من وعي فئات عريضة بقوتهم الكامنة و الزيادة من ثقتهم بنفسهم و ثقتهم ببعضهم البعض. اهتمام متزايد للمواطنين بالشأن العام و إعادة الاعتبار النسبي للقيم الجماعية و مُثُل التضحية من أجل المبادئ و حب الوطن و النضال من أجل المساواة و العدالة الاجتماعية بدل “قيم” الفردانية و الجشع و الاستهلاكية التي فرضهما تحالف نظام “السوق والهلع” marché et la terreur » « le المفروض علينا منذ استقلالنا الشكلي عن الاستعمار الفرنسي.
هزمت الحركة القمع المسلط ضدها سواء مباشرة من طرف المخزن أو من طرف بلطجيته و فرضت شرعية مسيراتها السلمية الأسبوعية لمدة زادت عن السنة و النصف.
فرضت حركة 20 فبراير نفسها رقما أساسيا على النظام الذي تجاهلها في البداية ليستجيب لبعض مطالبها في الشكل بدستور جديد و انتخابات مبكرة و تواري صديق الملك عن الساحة العمومية و اطلاق بعض السجناء السياسيين
كما فرضت الحركة نفسها على وسائل الإعلام المرئية المسموعة و المكتوبة التي سعت في البداية إلى تسفيهها. كما ساهمت الحركة في إحداث فرز داخل المشهد السياسي المغربي من بين من ساند مطالبها الديمقراطية و الشعبية و من عارضها منذ البداية إضافة إلى الانتهازيين باختلاف تلاوينهم، من كان ضدها عند الانطلاقة ثم من ساندها عند الانتخابات ثم عارضها بعدها و من حاول استعمالها من أجل تصفية حساباته الضيقة.
ما لم تستطع الحركة تحقيقه ….
لم تستطع الحركة إيقاف مراوغات المخزن و مخططاته السياسية الهادفة إلى الالتفاف على مطالبها ابتداء من تعيين لجنة ملكية لمراجعة الدستور حتى انتخابات برلمانية مرورا بالاستفتاء حيث فشلت الحركة في حشد المواطنين و تعبئتهم بالحجم الكافي الذي يسمح لها بوقف هذه المسرحيات التي كان معظمها هزيل الاخراج من خلال نسب مبالغ فيها و تلاعب مكشوف بالأرقام,
فشلت الحركة في إيجاد و إبداع أشكال ديمقراطية تسمح لعشرات الألاف من المواطنين الذين لبوا دعواتها في المسيرات من المشاركة في النقاشات و اتخاذ القرارت التي اقتصرت على بعض العشرات من المناضلين المحترفين و المخبرين المندسين من أجل إفشال أي محطة نضالية.
و من أهم الدروس التي يمكننا استخلاصها في هذا الإطار درسين قديمين-جديدين لكن هامين جدا:
الدرس الأول : تحرر المواطنات و المواطنين هو من صنع المواطنات و المواطنين أنفسهم (هن)
الدرس الأول الذي يمكننا استخلاصه من هذه الجولة الأولى من نضالات الحركة هو أنه مهما كانت نضالية و كفاحية حركة 20 فبراير و الذي يشكل الشباب نواتها الصلبة لا يمكنها فرض تراجعات حقيقية على النظام بدون التحاق مئات الآلاف و ربما الملايين من الكادحين المعنيين المباشرين بالتغيير الحقيقي. فرغم حجم المظاهرات التي نجحت الحركة في تنظيمها و هو حجم يبقى استثنائيا بالنظر إلى ما عاشه المغرب من قبل : مئات الآلاف في أكثر من 100 مدينة و قرية لكن هذه المظاهرات لم ترقى إلى مستوى الكتلة الضاغطة أو الكتلة الحرجة (la masse critique ) التي وصلت إليها في تونس و مصر مثلا من ناحية الحجم و كذلك من ناحية الاستمرارية و التطور المتصاعد، حيث عرف عدد المشاركين تذبذبا كما أن الحركة فشلت في ايجاد جسور التواصل بينها و بين حركات نضالية، فئوية و شعبية معظمها عفوي، لكنها تشكل في اعتقادي أهم أسس تغيير حقيقي و تعمل على انخراط واسع للمواطنين و المواطنات كل حسب مطالبه الخاصة و أولوياته الأكثر ملحاحية : (السكن، الشغل، البطالة ، حرية التعبير …) و هو ما كان سيعطي للحركة ميزة الجامع و الموحد لمختلف هذه النضالات التي سبقت معظمها حركة 20 فبراير لكنها تنامت و اتسعت رقعتها مع انطلاق الحركة. كما أن شعار الحركة المركزي : “كرامة، حرية، عدالة اجتماعية” و هو شعار أكثر وضوحا من شعار اسقاط الفساد كما أنه يحدد ما تطمح إليه الحركة و ما تناضل من أجله و ليس فقط ما تناضل ضده. أي ينقل الحركة من حركة “ضد” إلى حركة “من أجل” و يضع معايير ملموسة و محسوسة لدى المواطنين حول مدى تحقق ما خرجوا من أجله في اليوم الأول من عدمه و بالتالي ضرورة مواصلة النضال بدل مطالب فوقية و مجردة حاليا و غير محسوسة لدى العامة من قبيل ملكية برلمانية و دستور …. يسهل على النظام التلاعب بمفهومها و تقويضها حسب مخططاته.
إن تحقيق كل هذه المطالب إما أن يكون من صنع الكادحين المكتوين بنار التفقير و التهميش الذي تمارسه الفئات المستفيدة أو لن يكون أبدا.
الدرس الثاني : تحقيق المطالب يأتي عبر خلق ميزان قوى و لا يأتي أبدا عبر الاستجداء
في الوقت التي دأب فيه قسم مهم من النخبة المغربية منذ مدة على سياسة تقديم المذكرات و استجداء فتاتات التغيير الديمقراطي الذي قد يجود به الحاكمون، أعادت الحركة بنزولها للشارع الاعتبار إلى النضال الميداني و الارتكاز على تعبئة المواطنين و المواطنات من أجل تحقيق مكتسبات و فرض تنازلات على الحاكمين. و قد أبانت هذه الطريقة عن نجاعتها و فعاليتها بالمقارنة مع اصدار البيانات و بعث الرسائل إلى من يهمهم الأمر ….
الحاقد، الشاعر، سمير …ضحايا جبن الأغلبية منا و مراياهم المكسرة (Nos miroirs brisés)
في هذا الإطار يعتبر الحاقد، الشاعر، برادلي، يونس … ضحايا جبن اللأغلبية منا و مرايا مكسرة تكشف حجم الخيانة التي قام بها من تراجع في نصف الطريق، خيانة ليس فقط في حق هؤلاء المناضلات و المناضلين الشرفاء و لكن خيانة في حق الوطن و الأجيال القادمة. شباب الحركة هم ضحايا لأنهم آمنوا بمبادئهم و شرعية مطالبهم واصلوا المشوار في حين تخلف الكثيرون. اعتقلوا لأنهم كانت لهم الجرأة للبوح جهرا بما يقوله الكثيرون سرا و في الصالونات.
البيضاء 20 غشت 2012
م.جواد