قراءة في كتاب:
“الديون والنظام الاستخراجي: الصعود الحازم لثنائية مدمرة”
DETTE et EXTRACTIVISME :
La résistible ascension d’un duo destructeur
نيكولا سيرسيرون
NICOLAS SERSIRON
إن فعل قراءة الكتاب، هو عملية تثقيفية تؤدي بقارئه، عند الانتهاء منه، إلى إعادة النظر في الأفكار الموَجِّهة لسلوكه، وحطها محط الهدم لما يكتشف مع الكاتب مدى خداعِيّتها واحتيالها على عقول ملايين البشر في عالم اليوم.
يشرح الكتاب الطبيعة الحقيقية للنظام العالمي القائم، نظام ذو السمة الناهبة المتأسِّسة على ثنائيتي الاستخراجية والديون، إنه نظام النهب الاستخراجي الرأسمالي.
تعني الاستخراجية حسب الكتاب في معناها الواسع: نهب الموارد الطبيعية والبشرية والمالية. ويُمَكِّننا فعلا مفهوم الاستخراجية من تفسير التفاوتات الاجتماعية وتدمير البيئة، وفهم وتحديد العلاقات القائمة بين مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والبيئية…، وبالتالي إقامة الترابط بينها عكس ما تسعى إليه المعارف الإيديولوجية الرأسمالية من تشتيت للتفكير يسمح باستمرارية النظام، وعدم تحميله مسؤولية ما يقع اليوم من تدمير للكوكب وبؤس عيشٍ للشعوب.
بعد تحديد الأشكال المختلفة للنظام الاستخراجي من موارد طبيعية وأنظمة بيئية (أراضي، المياه العذبة المسروقة أو المحولة عن مسارها، البحار المغتصبة، الاستيلاء على الريح)، وفرط استخراج العمل، واغتصاب المخيال. يثقفنا الكتاب حول: كيف جرت عملية استعباد الشعوب تاريخيا من خلال فرط الاستخراج والديون؟
-
استعباد الشعوب: فرط استخراج وديون.
منذ نزول كريستوف كولومبوس في جزيرة هيسبانيولا Hispaniola بالكاريبي عام 1492م، بدأ فرط الاستخراج العابر للمحيط الأطلسي. لقد استولى الغزاة الاسبان والبرتغاليون في ذاك التاريخ على كل ما وقع في متناولهم من موارد طبيعية خاصة منها الذهب، ومُورسَ هذا الاستخراج بعنف وإبادات لشعوب بكاملها رفضت العبودية. وكانت التجارة المثلثية فرط استخراج ثلاثي:
الأول؛ تهجير ملايين الأفارقة وبيعهم ونقلهم إلى أمريكا من قبل أوروبا.
الثاني؛ استغلال عمل العبيد القسري.
الثالث؛ تصدير المنتجات إلى أوروبا.
أدتا نهاية العبودية (نصر الأمريكيين من أصل إفريقي)، والحاجات للمواد الأولية المنبثقة عن الثورة الصناعية إلى جعل القرن 19م؛ قرن استعمار مسلح، وإنشاء الإمبراطوريات. حيث سرق الانجليز والهولنديون في آسيا على التوالي المهارات الهندية قصد تطوير مانيفاكتورات النسيج، وطرائق العمل الهندوسية في الخزف والنسيج. وفي القارة الإفريقية تملكت فرنسا المنتجات الزراعية والغابوية بالعمل القسري للشعوب المستعبدة.
شهدت نهايات الحرب العالمية الثانية، وسنوات الستينيات من نفس القرن –بعد مقاومات- حصول البلدان الآسيوية والأفريقية على استقلالاتها من الاستعمار المسلح. لكن لا بديل للرأسمالية عن منهج الاستعمار، هكذا ستغير الإمبريالية -القائمة على تملك الموارد النباتية والأحفورية في شروط مشينة- من وسائلها لتنتقل إلى شكلها الاستعبادي الثالث أعلى درجات إحكام قبضة الغزو الرأسمالي المُنْهِيَة لحرية الشعوب.
في عام 1944م، أسست مؤسستي إدارة الاستعمار الجديد؛ البنك العالمي وصندوق النقد الدولي لتتحرك آلية الديون العنيفة. لقد أسهما بعد ذلك بنشاط في فرط استدانة بلدان الجنوب، وفي إفساد حكامها بتمويل “فيلة بيضاء” أو مشاريع كبرى غير مفيدة، وسدود ضخمة، واستخراج طاقات أحفورية، وسكك حديد، وموانىء ونفقات بذخ، كما أن كل ما يدعماه يكتسي طابعا استخراجيا. إن شغل البنك العالمي الوحيد هو سداد الديون، وتفضيل الاستخراج المفرط، وليس الإسهام في تمكين بلدان الجنوب من الإمساك بزمام أمورها وتحسين حياة سكانها. تمكن البنك العالمي من هذا بوضعه سنوات الستينيات أولى رافعات الاستعمار الجديد؛ “الدين العمومي”، الذي هو “دين كريه” إلى حدود بعيدة، فكانت أولى جرائمه إجبار “الديمقراطيات الفتية” على سداد قروض للمستعمرين (الحقبة الكريهة)، ويعتبر هذا الإجرام خرقا للقانون الدولي ومختلف مواثيق الأمم المتحدة التي تضع الحق في حياة كريمة فوق حقوق الدائنين.
مع متم الخمسينيات والستينيات؛ بقصد مواصلة السياسات الاستخراجية، والحفاظ على شبه مجانية استغلال الموارد الأولية الضرورية لاستمرارية قوة بلدان الشمال، تم إغداق الحكام الفاسدين بقروض مغشوشة اختلس معظمها، وذهب قسط منها إلى تمويل مشاريع فرعونية تنجزها شركات الشمال متعددة الجنسية (الرابح الكبير). بينما كان نصيب الشعوب أداء الديون -من خلال ضريبة القيمة المضافة-، وتكبد خسارة الخدمات العمومية.
بعد اختبار الليبرالية الفائقة في الشيلي جرى خلال الثمانينيات وما تلاها العمل على تعميمها في الكوكب برمته، وساعدت المفاقمة المُتَعمَّدة لأزمة الديون الكبرى في فرض اختيارين إما “برنامج تقويم هيكلي” أو إفلاس! فلم يكن الاختيار شيئا آخر غير وصفة الإديولوجية المسمات “إجماع واشنطن” المكونة من:
- انسحاب الدولة من الاقتصاد؛
- الخوصصة الكثيفة للمقاولات العمومية؛
- نزع الضبط المالي؛
- إلغاء الحواجز الجمركية؛
- خفض الضرائب المباشرة على المداخيل الكبيرة؛
- زيادة ثقيلة جدا في ضريبة القيمة المضافة على المداخيل الصغيرة؛
- خفض الميزانيات الاجتماعية والخدمات العامة؛
ولم يكن فرض تعميم التبادل الحر إلا ترسيخا لهيمنة اقتصادات المركز على اقتصادات الأطراف، هكذا -على سبيل المثال لا الحصر- سيطرت ألمانيا على بلدان جنوب أوروبا بعد عشر سنوات من إحداث منطقة اليورو.
إن ما أدى إليه فرط الاستدانة، بواسطة الاستنجاد بالبنك العالمي وصندوق النقد الدولي، هو جعل مالكي الرساميل يفرضون سياسات ليبرالية فائقة على البلدان “النامية”. ليست الديون إذن سوى رافعة مركزية للنهب الاستخراجي حتى المالي منه، فسدادها نعمة مالية هائلة، ويكون جواب البنك والصندوق الدوليين عن سؤال تأمين السداد: تقشف، تنافسية، تبادل حر. في حين يكون واقع نتيجة السداد كارثة اجتماعية مضمونة للسكان.
يستمر نفس المنطق؛ خدمة مصالح الدائنين والقوى الكبرى على حساب الشعوب لدى صندوق النقد الدولي “الجديد” الذي يديره فرنسيون: الاجبار على الاقتراض لسداد القروض السابقة، والإرغام على اللجوء إلى مستثمرين أجانب لتطوير الاستخراجية.
بالنسبة لبلدان الشمال، إن نمو الدين العمومي نابع عن إرادة سياسية، ففي أوروبا سواء لدى اليسار أو اليمين، أو في الولايات المتحدة الأمريكية لدى الجمهوريين أو الديمقراطيين، السياسات المتبعة هي خفض مداخيل الدولة، وخفض الضرائب على أرباح الشركات التجارية الكبيرة مع تهرب ضريبي، وبالتالي عجز الميزانيات تمهيدا لخوصصة تدريجية للخدمات.
بهذا، وبغنى الأمثلة الخاصة ببعض دول آسيا وإفريقيا وأميركا الجنوبية يشرح لنا الكتاب في فصله الثاني السيرورة التاريخية لاستعباد الشعوب الذي مارسه نظام النهب الاستخراجي الرأسمالي بأشكال مختلفة حسب شروط كل مرحلة.
-
الدين البيئي، والنظام الاستخراجي في الزراعة والتغذية الصناعيتين:
يحدد الكتاب أربعة أصناف للدين الإيكولوجي: دين تاريخي، دين بيئي، دين مناخي، دين اجتماعي. لكن الشركات الاستخراجية ترفض تحمل الأكلاف من احترار مناخي، وتلويث الماء، وكوارث بيئية وترحيل السكان، وأمراض.
إن الدين البيئي دين غير مالي وهو نتاج الاستخراجية، وبالمباشرة عن “أخذ” دون “عطاء” ولا “إرجاع” -الثلاثية القيمية في تقاليد الأجداد التي أبرزها مارسيل مورس-. ولقد تراكم من خلال وسائل النهب الأوروبي (حملات الإبادة في أمريكا الجنوبية ثم الشمالية، وتجارة الرقيق في افريقيا والاستعباد المسلح)، وبالنتيجة المباشرة للنهج الاستخراجي (نهب الموارد الطبيعية، والبشرية، والمالية). كما أنه الوجه المخفي لمأساة نزع الملكية الاستخراجي، وبإمكانه إفهامنا بشكل أفضل أسباب تفاوت البشر الكبير في “التنمية”.
الدين الإيكولوجي نتيجة أعمال النهب التي قام بها المعمرون والشركات متعددة الجنسية، ويقدم لنا الخبير الاقتصادي جان غادري Jean Gadrey تقديرات عن الديون المرتبطة بالكاربون، واستغلال الغابات، نقل مواد خطيرة/نفايات نحو الجنوب، والصيد، وموارد باطن الأرض، والأراضي الصالحة للزراعة…، وإضافة لهذا يعد مفهوم البصمة الإيكولوجية ذو أهمية بالغة في فهم الدين الإيكولوجي. لكن البعض يراه غير ذا أساس قانوني.
يقول نيكولا: “إن اعترافا بالدين الإيكولوجي يستتبع تحويلات تعويضية تقنية ومادية ومالية حقيقية من الشمال إلى الجنوب، وليس فقط فتاتا زائفا من باب الإنسانية”. وهذا شرط لا غنى عنه لتدارك “تنمية” البلدان المسمات تعسفا نامية، وأيضا لانعتاق السكان من الفقر وتعزيز سيادتهم، كما أن هذا الاعتراف سيدفع إلى رفع أسعار المواد الأولية، وتباطؤ الاستخراج، والتصدير المفروض. كلها أشياء لن تتم إلا بالتعاون النضالي بين المجتمعات المدنية بالشمال والجنوب.
هي إذن معركة حاسمة يجب خوضها للنضال ضد احترار المناخ، والكوارث البيئية، وفقر ملايير البشر.
ليست الزراعة الصناعية سوى نهب استخراجي للممتلكات المشتركة من قبل الزراعة الاعتيادية Conventionnelle؛ حيث نجد الاستيلاء على الأراضي، والزراعات الأحادية التصديرية المخرجة لخصوبة الأراضي، وخوصصة تلويث الماء، وفرض استغلال البترول.
إن هذا النظام الاستخراجي الزراعي مسؤول عن:
- زوال المواد العضوية؛
- ضياع التنوع الإحيائي النباتي والحيواني؛
- الفوضى الصحية بسبب المبيدات؛
- تجريد المزارعين من أراضيهم؛
شكلت أزمة الديون الكبرى في الثمانينيات مناسبة لفرض التبادل الحر للمواد الزراعية. بواسطة “استراتيجية الصدمة”، أي اختفاء المساعدات العمومية للمزارعين، وخوصصة البنوك العامة الموجهة للفلاحة لفائدة البنوك الدولية، وعبر تشجيع البنك وصندوق النقد الدوليين بمئات الدولارات الشركات متعددة الجنسية.
بفضل الديون والتبادل الحر ستدخل المنتجات الزراعية الأجنبية في تنافس غير مشروع مع الفلاحين المحليين، وسيتم إغراق الأسواق، وسيتزايد تخصص الإنتاج حسب البلدان مع سداد الديون …
بعد الحرب العالمية الثانية اختار صناع القرار تصنيع الزراعة والنزعة الاستهلاكية الجماهيرية، هكذا انتقلت الصناعة من معدات الحرب إلى إنتاج آلات زراعية وأسمدة ومبيدات، وألبس هذا الاختيار قناع “الثورة الخضراء”.
لقد استعملت فوائض إنتاج “الثورة الخضراء” علفا للماشية، مما نتج عنه ازدياد القطيع واستهلاك اللحوم، كما أنها اجتاحت البلدان “النامية”.
إن الخليط الذي يرفع سعر المواد الغذائية هو نتيجة لخيارات سياسية، ويتمثل في:
- التبادل الحر؛
- الوقود الزراعي؛
- اللحوم والبروتينات الحيوانية؛
- المضاربات على المواد الغذائية؛
- آثار تغيرات المناخ على الزراعة؛
هل فعلا للزراعة الاعتيادية مردودية، وبإمكانها تقديم سعر معتدل للسكان؟ الإجابة التي نجد في الكتاب هي: لا. فالبلدان الغربية معرضة للإفلاس إذا ما توقفت الإعانات العمومية، وإذا ما طبقت قاعدة الملوث-المؤدي، وفي بلدان الجنوب يتعرض المزارعون للمنافسة غير المشروعة بسبب التبادل الحر المفروض، حيث يخسرون أراضيهم والعمل الذي يغذيهم لصالح المستحوذين الإنتاجويين.
إن السوء هو سمة التغذية في الشمال كما الجنوب؛ في الأول نجد السمنة وزيادة الوزن والأمراض، وفي الجنوب نجد المجاعات.
بهذا يشرح لنا الفصلين الثالث والرابع من الكتاب لماذا يجب الحديث عن الدين الإيكولوجي والاعتراف به، وكيف تتدخل الاستخراجية في الصناعة الزراعية هي والديون، بالإضافة إلى الكوارث التي خلفتها التغذية الصناعية على البشر في الكوكب برمته.
-
بعض المقترحات لبناء عالم ما بعد الاستخراجية والنزعة الاستهلاكية:
إذا ما استمر استنزاف الموارد الطبيعية وتسارع الكوارث المناخية والبيئية، فإن انهيار النظام الاستخراجي أمر محتوم.
إذا لم نفكر في كيفية إنشاء عالم ما بعد المجتمعات الاستخراجية الاستهلاكية، فإن حلول الهمجية هو الخيار الذي نواجه.
يمكننا إزاحة الزراعة الإنتاجوية، واستبدالها بزراعة إيكولوجية. وعلينا أن نوقف الهدر الطاقي بدل تعليق الآمال على الطاقات المتجددة، لذلك وجب الحد من استهلاك الطاقة خاصة النفط، هذا اقتراح رابطة نيغاوات Négawatt.
على سكان البلدان الأكثر ازدهارا تقليل بصمتهم الإيكولوجية، وكبح نمو التفاوت الاجتماعي والزراعة الصناعية والسلوك الهمجي تجاه باقي البلدان، على التفكير أن ينحو منحى إنقاذ الشعب من طرف الشعب، وليس التعويل على خدام الرأسمال من قادة سياسيين ومسؤولو المؤسسات المالية.
من خلال المقاومات المترابطة؛ تعدد النضالات المحلية والعالمية في الشمال والجنوب، وإرساء تجارب بديلة؛ تجريب أساليب حياة مبنية على الاستقلالية والتضامن والمجانية. ببناء المقاومات علينا السعي نحو تدقيق مواطني للديون العمومية بالبحث عن مصدرها، وفيما استعملت، ومن يملك سنداتها، وهل تم تحويلها لمصلحة السكان أم لا.
يجب أيضا التخلي عن المساعدات الإنمائية العمومية والاستعاضة عنها بنظام للتجارة العادلة، لأنها مثل الديون غير المشروعة مكون من مكونات ترسانة الاستعمار الجديد.
علينا التفكير في زراعة إيكولوجية، وإعادة توطين الإنتاج، وإعادة النظر في التنقل واستخدام وسائله، وممارسة اعتدال غذائي.
يقدم الكتاب أيضا الكيفيات الممكنة لاختفاء الفراديس الضريبية والقضائية PFJ.
كانت هذه اقتراحات -على سبيل الأمثلة لا الحصر- من بين اقتراحات عديدة تضمنها الفصل الخامس والأخير من الكتاب الذي كتب بمشاركة روبن ديلوبيل .Robin Delobel
إن نيكولا سيرسيرون في كتابه الديون والاستخراجية، لم يثقفنا فقط حول الحقيقة المدمرة لكل مناحي الحياة التي نهجتها وتنهجها الرأسمالية الناهبة، بل يكمل دوره التثقيفي بتوجيهنا نحو إمكانيات فعل قادرة هي وأخرى نابعة من أولئك الذين طالما ينظر لهم نظرة عجز وقصور، أولئك القابعين أسفل، على تجنيبنا الهمجية التي يتوعدنا بها نظام النهب الاستخراجي في حالة استمراره، وفتح أفق حياة أفضل للبشرية جمعاء.
للتحميل
أطـــــــاك المغــــــرب
عضو الشبكة الدولية للجنة من أجل إلغاء الديون غير الشرعية
مجموعة الرباط
-لجنة البيئة-