تفاقم البطالة:أبرز انعكاسات الهجوم الليبرالي و حلبة أساسية لمواجهته
هناك عدة أسباب ساهمت وتساهم في تزايد معدلات البطالة واتساع رقعتها في المجتمعات المعاصرة. لكن يبقى منطق اشتغال النظام الاقتصادي الرأسمالي القائم على استغلال الرأسمال للعمل المأجور قصد مراكمة الأرباح، وحاجته الدائمة لجيش احتياطي من العمال من أجل الحفاظ على أجور دنيا وخلق شروط أفضل لصالح الرأسمال عند شراء قوة العمل، وهذه ميزة البطالة الكلاسيكية الناتجة عن الأزمات الدورية للنظام الرأسمالي، سواء كانت بدورات قصيرة أو طويلة.
هذه الأزمات تتسبب في إغلاق المصانع والمقاولات وبالتالي في التسريحات الجماعية للعمال وتقليص مناصب الشغل وخفض الأجور. كما أن استحواذ البورجوازية على القسم الأعظم من ارتفاع انتاجية العمل أدى لعدم استفادة الأجراء من خفض ساعات العمل اليومية دون خفض مستوى المعيشة وبالتالي اشتغال عدد اكبر من العمال.
يدافع التيار الليبرالي السائد، بناءا على تحليلات أدمون فيليبس و ميلتون فريدمان، عن وجود معدل بطالة “طبيعي” في تناسق مع معدل التضخم. و ان كل انخفاض لنسب البطالة عن هذا المعدل “الطبيعي” سيؤدي إلى ارتفاع نسبة التضخم.
جلي أن هذه الحجة تخفي سعي الرأسماليين للحفاظ على العرض المرتفع “لقوة العمل” من أجل ضمان أجور منخفضة و بالتالي هامش ربح كبير. أي الحفاظ على التنافس القوي بين الأجراء حول من سيقبل بأقل الأجور.
غير أن هناك أسباب خاصة ومباشرة مرتبطة بميزان القوى السياسي بين مختلف طبقات المجتمع، تجلت في أزمة نظام دولة “الرعاية الاجتماعية” لما بعد الحرب العالمية الثانية في الدول الصناعية ونموذج التنمية “المستقلة” في دول عدم الانحياز. أدت أزمة منتصف السبعينات من القرن العشرين إلى بداية هجوم شامل على مكاسب الشغيلة من خلال ضرب مكسب “التشغيل الكامل” وإدخال المرونة والهشاشة لعالم الشغل على نطاق واسع.
في العالم الثالث ترجم الهجوم الرأسمالي في ما عرف بمخططات “التقويم الهيكلي”، الذي كان أحد أسبابه انفجار أزمة مديونية بلدان العالم الثالث و كذلك الرغبة في إيجاد منفذ لسلع الدول الصناعية و رأسمالها.
وقد طرحت المؤسسات المالية هذا البرنامج ل “إعادة قدرة البلدان المدينة على إرجاع الديون والاستمرار في تسديد الفوائد”. و قد ارتكز هذا البرنامج على:
– تقليص الميزانيات العمومية والنفقات الاجتماعية ونفقات التجهيز في قطاعات الصحة والتعليم والسكن والبنية التحتية، بدعوى أنها قطاعات غير منتجة في نظر هذه المؤسسات أي تخفيض النفقات الحكومية بهدف تحقيق توازن الميزانية.
– إلغاء الدعم المالي المخصص للسلع والخدمات الأساسية (الخبز، الزبدة، الزيت…)
– خصخصة المؤسسات العمومية وشبه العمومية
– تجميد الأجور الحقيقية وإدخال المرونة والهشاشة لسوق العمل
– سياسة ضريبة لجلب الاستثمارات الأجنبية و تركيز الانتاج من اجل التصدير
أدى تطبيق المغرب لبرنامج التقويم الهيكلي خلال سنوات الثمانينات إلى نتائج كارثية على أوضاع الجماهير تجلت نتائجها في العديد من الانتفاضات الشعبية، نتيجة انخفاض القدرة الشرائية للأجراء و كذا ارتفاع نسب البطالة بين الشباب و خاصة المتعلم. هذه الوضعية حتمت على الدولة، إلى جانب السياسات القمعية للشباب المناضل من أجل الحق في الشغل، انتهاج سياسة ترقيعية لمواجهة المشكل افتتحتها بالمجلس الوطني للشباب و المستقبل سنة 1990 و لا زالت سائرة في تنفيذها بوصفات مختلفة إلى اليوم.
أ- سياسات إنعاش التشغيل: خدمة للرأسمال على حساب الأجراء و المعطلين
برامج إنعاش التشغيل ليست عاجزة فقط عن الاستجابة لحاجيات الشباب بل تعتبر مدمرة للعمل القار و مساعدة على استفحال الهشاشة، فتدريب من سنتين أو ما سمي “عقد أول عمل” الذي جاء به برنامج “إدماج” يجعل المستفيد منه دون حماية اجتماعية و دون أي حقوق، و يمكن للمشغل أن يطرده في أي وقت، فهو لا يشجع المقاولين على توفير عمل قار، بل يغريهم بالتخلص من بعض أجرائهم من ذوي العقود غير المحددة المدة للاستفادة من الامتيازات التي يوفرها برنامج “إدماج”. الهدف هو الرفع من تنافسية المقاولات المحلية و رفع جاذبية الاستثمار على حساب صحة و حياة الشباب و الشابات، من خلال خفض كلفة الأجور و و التخلص من المساهمة في الصناديق الاجتماعية.
أما برنامج “تأهيل” فيكشف عن ديماغوجية كبيرة حيث يقال أن بطالة الشباب نابعة من عدم ملائمة المنظومة التعليمية مع حاجيات الاقتصاد، في زمن التطبيل لإصلاح التعليم و ميثاق التربية و التكون، الذي وعد بأنه سيحل مشكل بطالة الخرجين من خلال التوفيق بين التكوينات و حاجيات الاقتصاد، لكنه نجح فقط في تخريب التعليم العمومي و جعل جودته أقل. إن الهدف من هذه التكوينات من خلال برنامج تأهيل هو توفير سوق لمقاولات التعليم الخصوصي المحلية و الأجنبية و كذا خلق سوق للمؤسسات التعليمية الجامعية من اجل المساعدة على خوصصة بعض خدماتها التكوينية. فكيف نعيد شبابا بالكاد أنهى تعليمه إلى صفوف الدراسة لتلقي تكوينات جلها يمكن أن يمنح إبان المشوار الدراسي؟ إنها لعبة مكشوفة للتمويه عن الأسباب الحقيقية للبطالة، أي طبيعة النظام الاقتصادي و الاجتماعي و السياسي السائد في البلاد.
مني برنامج مقاولتي بفشل ذريع ناتج عن ملاحظة الشباب للإفلاس الذي يطال المقولات القائمة، جراء انفتاح السوق الداخلي و غزو البضائع الأجنبية. فأي مقاولة سيتم إرساؤها بمبلغ 250000 درهم إن لم يكن مقاولة هشة و عرضة للفشل في أي وقت. إنها ديماغوجية دولة البورجوازية التي تدغدغ عواطف المضطهِدين لتوهمَهم بإمكانية الرفاهية عن طريق الاستثمار و مراكمة الأرباح، في حين لا تكل الدولة عن الحديث عن ازمة المقاولات الصغرى و صعوباتها و لا تنافسياتها و ضرورة دعمها.
أما برنامج التكوين بالتدرج المهني فتركيزه على التدريب داخل المقاولة، يستعمل كغطاء لتقديم يد عاملة مجانية للرأسماليين و القطاعات الأقل تنافسية من أجل خفض تكلفة إنتاجها للسلع و الخدمات.
في حين تقترح الحكومة في برنامجها برنامج “مبادرة” القاضي بجعل الجمعيات غير الحكومية تسهم في تشغيل الشباب، فأقل ما يقال عنه انه متهافت، فكبف يا ترى ستحل جمعيات مشكل بطالة الشباب إذا كانت مواردها المالية هزيلة. علما أن الجمعيات التي تتوفر على موارد سنوية لا تتجاوز 100.000 درهما تمثل 80٪ من مجموع الجمعيات و تتقاسم أقل من 10٪ من مجموع الموارد المالية للنسيج الجمعوي. أما برنامج “تـأطير” فما هو إلا نسخة باهتة لبرنامج “تأهيل”، بينما برنماج “استيعاب” الذ ي يهدف لتوسيع الاقتصاد المهيكل قمة الضحك على الذقون، إذا علمنا أن أكثر من أربعة ملايين ونصف (4,7 مليون) من الأجراء غير مصرح بهم لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي و أن ذلك ما هو إلا هدية للدولة لطبقة بورجوازية متخلفة تعيش على استنزاف دم الأجراء.
ورغم هذه البرامج التي تتوجه بالأساس للمتعلمين و الحاصلين على شواهد، فإن مشكل بطالة الشباب غير المتمدرس أو غير حاصل على شواهد تبقى مخفية رغم تعتيم الاحصاءات الرسمية، فالبنك العالمي يشير في تقرير أعده متم سنة 2010 و قدمه بالرباط يوم 14 ماي 2012، إلى أن 80 % من الشباب المعطل له مستوى دراسي أقل من الثانوي أو غير متعلم بالمرة. الأكيد أن هذه الاجراءات لا تلقى القبول من طرف الشرائح الأكثر وعيا و تنظيما من المعطلين الشباب، أصحاب الشواهد العليا الذين يواصلون النضال من أجل الوظيفة العمومية. و هم على حق في ذلك، فالقطاع الخاص غابة للرأسمال يفترس فيها زهرة شباب العمال و العاملات مقابل الفتات.
خاصة عندما نعلم أن 57% من الأجراء المصرح بهم لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي تتراوح أجورهم بين 1300 و 3000 درهم في الشهر و أن 99 % من الأجراء المصرح بهم لدى نفس الصندوق لا يتجاوز أجرهم 5000 درهم في الشهر.
ندرك لماذا يرفض المعطلين حاملي الشواهد و الدبلومات الاشتغال في القطاع الخاص، إنهم يرفضون الأجور المتدنية و شروط العمل السيئة و عدم استقرار الشغل و طول يوم العمل، إنهم يبحثون عن مكاسب أفضل و هي متحققة في الوظيفة العمومية و المؤسسات العمومية. و عموما فمعدل الأجور في الوظيفة العمومية يشكل ضعف معدل الأجور في القطاع الخاص و ثلاث أضعاف الحد الأدنى للأجور. لهذا يبقى سعي الشباب المعطل للحصول على عمل بأجور أحسن و ظروف عمل أفضل من خلال خوض النضالات مشروعا.
إن سعي النظام إلى تفكيك الوظيفة العمومية، و المؤسسات العمومية (يشغلان قرابة مليون أجير و أجيرة) عن طريق الخصخصة و إدخال العمل بالعقدة و الهشاشة يهدف في جوهره إلى ضرب مكتسبات الطبقة العاملة و كذا تمكين الرأسمال المحلي و الأجنبي من فرص الاغتناء على حساب خيرات الشعب.
إن عدد المناصب المالية المخصصة للتوظيف في قانون المالية منذ سنة 2003 إلى غاية سنة 2012 و صل إلى 137646 منصب فقط، في حين عرفت سنة 2005 عملية إحالة على التقاعد المبكر (المغادرة الطوعية) شملت كافة القطاعات الوزارية و همت 38763 موظف و موظفة. كما قامت المؤسسات العمومية منذ سنة 2005 بعمليات مغادرة طوعية لأجرائها بلغت اللآلف، و هو ما يكشف مسعى الدولة في تقزيم كتلة أجرائها و تحميلهم تبعات سياسات التقشف.
إن ما تخصصه قوانين المالية من مناصب يبقى هزيلا بالمقارنة مع الحاجيات المهولة في القطاعات الاجتماعية، فقطاع التعليم (بما فيه العالي) نال 52340 منصب بنسبة 38 % من مجمل المناصب بينما قطاع الصحة استفاد من 01510 منصب بنسبة 11% في حين استحوذ الجهاز الأمني (الداخلية و الجيش) على 51060 منصب بنسبة 37% و تقاسمت باقي القطاعات 14% من المناصب.
ب-لا مخرج من نفق البطالة المظلم إلا بالقطع مع منطق الربح الرأسمالي
من أجل الخروج من البطالة و الهشاشة و قسوة ظروف العمل (الأمراض المهنية و الضغوط الاجتماعية) يقتضي الأمر إعادة توجيه النشاط الاقتصادي على أسس جديدة لا يكون فيها الانتاج من أجل الربح هو المحرك، بل الانتاج من أجل تلبية الحاجات الانسانية الأساسية بالشكل الذي يحافظ على البيئة و موارد الكوكب الأرضي من التبذير. لهذا يجب الاهتمام بالقطاعات الاقتصادية من حيث قيمتها و مردوديتها الاجتماعية و ليس مردوديتها المالية. هذا الأمر يقتضي اتخاذ إجراءات مستعجلة و متناسقة من أجل مواجهة نزيف البطالة:
– عقود عمل غير محددة المدة لجميع الأجراء، لأجل ضمان استقرار الشغل.
– منع الساعات الاضافية، فلا يعقل أن لا يجد البعض وقت للراحة و الاهتمام بالشؤون العائلية مثلا، بينما يغرق البعض في بطالة قاتلة.
– إلغاء شركات الوساطة و السمسرة في اليد العاملة و كذا عمل المقاولات من الباطن.
– منع التسريح من العمل قصد رفع المردودية (حسب المندوبية السامية للتخطيط 27,2 % من العاطلين أصبحوا كذلك نتيجة إغلاق مؤسساتهم أو طردهم من العمل).
– خفض ساعات العمل الأسبوعية لخلق مناصب شغل جديد و إعادة توزيع الأرباح بين العمل و الرأسمال لصالح الأجراء. “حسب الحسابات الوطنية المعدة من طرف المندوبية السامية للتخطيط يستمر استحواذ الرأسمال (البورجوازية) على قرابة ثلثي القيمة المضافة المنتجة سنويا بالبلد مقابل قرابة الثلث للعمل (الأجراء) على عكس ما هو موجود تماما بأوروبا حيث نصيب العمل ما يقارب الثلثين“. و هو ما يكشف درجة استغلال الطبقة العاملة المغربية إذا علمنا التخلف التقني و التكنولوجي لأغلب المقاولات المحلية و تشغيلها ليد عاملة كثيفة.
رفع الأجور الدنيا وربطها بارتفاع الأسعار (كلما ارتفع سعر مادة معينة يسارع الرأسمالي لرفع أثمان سلعته، بحجة غلاء المواد التي تدخل في صناعتها، و قوة العمل كأي سلعة إذا ارتفعت أثمان السلع التي تدخل في تكوينها، فيجب أن يرتفع سعرها).
– توسيع القطاعات الانتاجية و الخدماتية غير السلعية و إبعاد منطق السوق الرأسمالي عنها من قبيل التعليم و الصحة و توزيع الكهرماء و خدمات البريد و الاتصالات…
– إعادة توجه الصناعة و الفلاحة بالاتجاه الذي يلبي حاجيات السوق المحلية و يحافظ على البيئة و صحة الأجراء.
– إلغاء المديونية العمومية الخارجية التي تترجم السيطرة الامبريالية على البلد و المطالبة بتعويض الدين التاريخي الناتج عن الاستعمار و نهب موارد البلاد من طرف إسبانيا و فرنسا.
– إلغاء اتفاقات التبادل الحر و الشراكة مع القوى الامبريالية التي تعتبر شكل من أشكال نهب الدول النامية و تدمر النسيج الاقتصادي للبلد.
– فرض ضريبة تصاعدية على الثروة
هذه الاجراءات تستلزم نظاما سياسيا و اقتصاديا في خدمة الشعب و منبثقا عن إرادته، أي نظام ديمقراطي، و حكومة منتخبة، للشعب أن يعزلها متى شاء، حكومة لا تكون في خدمة الأقلية النهابة و المستبدة و الرأسمال الأجنبي. هكذا حكومة تقتضي النضال من أجل فرضها تعبئة قوية للطبقة العاملة و عموم الكادحين، لأجل الظفر بالديمقراطية السياسية و العدالة الاجتماعية.