وُقعت اتفاقية التطبيع بين المغرب وإسرائيل في ديسمبر 2020، في إطار الاتفاقيات الأبراهامية برعاية الولايات المتحدة الأمريكية. إن مفهوم “التطبيع” هنا غيرُ دالٍّ على حقيقة العلاقات بين الدولتين، فالدولة المغربية لم تكن قط في حرب مع إسرائيل، كي تقوم بالتطبيع معها، بل كانت العلاقات قديمة قدم “الدولة الحديثة” بالمغرب، أي منذ فجر الاستقلال[1]. لكن الجديد هو سياق التطبيع الحالي، أي السياق النيوليبرالي[2] في أزمته المنطلقة منذ العقد الأول من سنوات الألفين، وما فجرته من تنافس بين القوى العظمى: الولايات المتحدة الأمريكية وتوابعها من جهة والصين من جهة أخرى، وما أثاره ذلك من تنافس حول القارة الأفريقية.
تتجاوز آثار “تطبيع” النظام المغربي مع الكيان الصهيوني العلاقاتِ بينهما، لتشمل أيضا القارة الأفريقية. وكما قدَّم النظام المغربي نفسه منصَّة للرأسمال العالمي (الأوروبي والأمريكي) نحو القارة الأفريقية، يقدِّم نفسه أيضا مَعبَرا لإسرائيل نحو هذه القارة، وغزوها اقتصاديا. ولا ينفصل الأمران، فإسرائيل حاملة طائرات الولايات المتحدة الأمريكية، التي تُنعَث عادة بالولاية الأمريكية الواحدة والخمسين، والمغرب المندرج دوما في استراتيجية الإمبريالية الغربية، يلعبان نفس الدور في رقعة شطرنج التنافس العالمي بين قوى إمبريالية، تقليدية (مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي) وصاعدة مثل (الصين وروسيا).
النظام المغربي: قطعة شطرنج في صراع الولايات المتحدة ضد منافسيها
تبعا للدعاية الرسمية فإن قرار التطبيع قرار سيادي لخدمة المصالح الوطنية. لكن وضْع المغرب كحليف استراتيجي للولايات المتحدة (والاتحاد الأوروبي)، وكون اتفاقية التطبيع ذاتها برعاية أمريكية، تجعل هذا القرار مندرجا في استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية لإعادة ترتيب أوضاع المنطقة سياسيا، لمواجهة منافسها الشرس: الصين، بالدرجة الأولى، والمنافسين من الدرجة الثانية، أي روسيا.
موقع المغرب وإسرائيل من هذا التنافس ليس خفيا، وقد أوضحه مقال صادر عن معهد القدس للاستراتيجية والأمن (JISS)، الذي أورد العلاقات بين البلدين في سياق “الانتكاسات التي عانت منها الولايات المتحدة والغرب في منطقة الساحل، وأبرزها طرد الوجود الأمريكي والفرنسي في النيجر”، واعتبر “التعاون المغربي الإسرائيلي رصيدا استراتيجيا”. ولمواجهة هذا الوضع، أشار المقال إلى: “يمكن لإسرائيل أن تساعد وتدعم الاستراتيجية المغربية المضادة – وهي استراتيجية كبرى لتأسيس دور قيادي في إفريقيا من خلال القيادة الاقتصادية والمالية، والمشاريع المنسقة للاستثمار والتنمية، وحيثما كان ذلك ضروريًا وممكنًا، الدعم العسكري والاستخباراتي للأنظمة والقوى الموالية للغرب الباقية. كما ينبغي أن يتطور هذا الدور بالتنسيق الوثيق مع الإدارة الأمريكية (ومع القوى الأوروبية ذات الصلة)”[3].
حيلة خبيثة
تعزف إسرائيل- شأنها شأن ترامب عندما أقرن اتفاقيات أبراهام بالاعتراف بالسيادة المغربية على الصحراء- على وتر الصراع بين النظامين المغربي والجزائري وقضية الصحراء. كلا النظامين (المغربي والإسرائيلي) يريدان تبرير التطبيع بخدمة “قضية وطنية” ومحاربة “أعداء الوطن”؛ أي الجزائر والبوليساريو، والإيماءة واضحة طبعا، فعدو إسرائيل هي المقاومة الفلسطينية وكل من يرفض التطبيع معها، أو يختار حلفا إمبرياليا آخر، كما هو شأن الجزائر مع روسيا.
كتب معهد القدس للاستراتيجية والأمن (JISS): “لا يزال [المغرب] حريصًا على الاستفادة من العلاقة مع إسرائيل للإشارة إلى اصطفافه مع المحور الذي تقوده الولايات المتحدة… واتخاذ موقف أقوى ضد الجزائر (وبالتالي جبهة البوليساريو) مع استمرار تصاعد التوترات الدبلوماسية ومستوى التهديد”، مبررا التحالف بين البلدين بـ”حاجة البلدين إلى العمل معًا في منطقة الساحل وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى – حيث أعطت التطورات المقلقة في السنوات الأخيرة فرصة للعناصر المعادية للغرب للقيام بأعمال مؤذية – قد تصبح جانبًا رئيسيًا آخر من جوانب الشراكة بينهما في المستقبل”.
إن المقصود بـالتطورات المقلقة” في منطقة الساحل وأفريقيا جنوب الصحراء، هي “طرد الوجود الأمريكي والفرنسي في النيجر”، فضلا عن تفاصيل أخرى وردت في مقال المعهد، وهي: “بالنسبة لروسيا (مع الوجود المتزايد لمرتزقتها في المنطقة)، والصين (التي تستعرض عضلاتها الاقتصادية القوية وتغري الحكومات الأفريقية بالتزامات طويلة الأجل)، وإيران (التي عادت إلى أسلوبها التقليدي في التخريب بالوكالة)، أصبحت أجزاء كبيرة من أفريقيا أرضًا للفرص لتحقيق مكاسب استراتيجية محتملة”.
إنها حيلة خبيثة تلجأ إليها إسرائيل، ويكررها الإعلام الموالي للنظام المغربي. حيلة تُصور بلدا مغاربيا، وهو الجزائر، على أنه عدو تاريخي، بينما تصنَّف إسرائيل حليفا موثوقا، إسرائيل التي تمثل الخنجر الذي زرعته الإمبريالية في صدر المنطقة منذ عقود.
المغرب: بوابة إسرائيل نحو أفريقيا
هكذا يخدم النظام المغربي، بتخفيه وراء الدفاع عن “القضية الوطنية الأولى”، أهداف الإمبريالية الأمريكية والأوروبية، في مواجهة منافسة الصين وروسيا، وفي نفس الوقت يتيح للاستثمارات الإسرائيلية للمرور عبر بوابة بلد ثالث إلى أفريقيا. وهي آلية استعملتها إسرائيل في ما قبل لاقتحام السوق المغربي[4].
صدر عن موقع إسرائيلي، معهد دراسات الأمن القومي (INSS)، مقال يحمل عنوانا معبِّرا: “بوابة إلى أفريقيا؟ الفرص الاقتصادية في العلاقات بين إسرائيل والمغرب”. والهدف طبعا مدُّ علاقات إسرائيل، بوساطة مغربية، إلى الدول التي لا تربطها علاقات دبلوماسية مع إسرائيل. وهو ما ورد بالحرف في مقال (INSS): “بالنسبة لإسرائيل، فإن تعزيز العلاقات الاقتصادية مع المغرب يمكن أن يفتح لها بوابة إلى إفريقيا، خاصة إلى الدول التي لا تربطها بإسرائيل علاقات دبلوماسية، مع الاعتماد على خبرة المغرب وبنيته التحتية”[5].
يشكل الرأسمال المغربي ودولته هنا، فرقة كشَّافة لإسرائيل، كما سبق وشكلها للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، تحت شعار “علاقات جنوب- جنوب”. فباستغلال تغلغل الرأسمال المغربي في أفريقيا، تبحث إسرائيل عن جني ثمار لم تتحمَّل كلفتها: “إن تعزيز العلاقات الاقتصادية مع المغرب يمكن أن يفتح لها بوابة إلى إفريقيا، خاصة إلى الدول التي لا تربطها بإسرائيل علاقات دبلوماسية، مع الاعتماد على خبرة المغرب وبنيته التحتية. في السنوات الأخيرة، عمل المغرب على تطوير البنية التحتية المالية والتجارية في أفريقيا جنوب الصحراء، خاصة في البلدان الفرنكوفونية في غرب ووسط أفريقيا، حيث تنشط البنوك المغربية وحيث حركة النقل بين هذه البلدان والمغرب متطورة للغاية”، على حد تعبير المقال المنشور في (INSS).
يتعدى الأمر المكاسب الاقتصادية، ليشمل المكاسب الدبلوماسية، وهي الأهم بالنسبة لإسرائيل، التي تريد من علاقتها مع المغرب، فك العزلة التي تعانيها دوليا، خصوصا في القارة الأفريقية. وهو ما أشار إليه مقال (INSS)، بقول: “إن فتح بوابة إلى غرب ووسط أفريقيا يحمل أيضًا إمكانات سياسية، في شكل تعزيز العلاقات مع الدول الأفريقية. وقد يكون هذا التطور مفيدًا لإسرائيل في المحافل الدولية، ولا سيما في ما يتعلق بالتصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن”. ويتخذ هذا طابعا ملحا مع سحب الاتحاد الأفريقي من إسرائيل صفة العضو المراقب الذي كانت تتمتع به داخل المنظمة، وتقديم جنوب أفريقيا طلب محاكمة إسرائيل بتهمة ارتكاب إبادة جماعية أمام محكمة العدل الدولية.
إعادة إنتاج السردية الاستعمارية: إسرائيل حاملة الحضارة إلى أفريقيا
في ما مضى بررت إسرائيل احتلالها لفلسطين “الأرض بدون شعب، لشعب بدون أرض”، بنفس التبريرات العنصرية الاستعمارية: “الصحراء العربية أدنى مرتبة من الأرض المزروعة/ الخضراء المتفوقة” المستوحى من “الخطاب الصهيوني الذي يصور إسرائيل فوق أنقاض مئات القرى الفلسطينية المدمَّرة على أنه استصلاح للأرض”[6]. وهو ما استبطنه النيجيري أولوفيمي أولادوني، الرئيس التنفيذي لمعهد التدريب على الإدارة الزراعية والريفية (ARMTI)، عند الحديث عن إنجازات إسرائيل تلك: “إسرائيل مكان صحراوي حيث كل مكان أخضر. تجربتها في تحويل الصحراء إلى أرض خضراء أسطورية. عندما تصل إلى هناك، تجد كل مكان أخضر. لن تعرف أنها صحراء”.[7]
هكذا فإسرائيل قادمة لإنقاذ الصحراء العربية والأفريقية من قدرها الطبيعي غير الملائم، اعتمادا على إنجازات إسرائيل التكنولوجية في المجال الفلاحي، تماما كما كان الاستعمار الفرنسي والإنجليزي… إلخ، يبرر احتلال أفريقيا بالرسالة الحضارية للإنسان الأبيض الحامل للتقدم والمدنية إلى الإنسان الأسود الخامل، وغير العارف كيف يستغل ما تختزنه طبيعته من خيرات وموارد.
هذا ما أكد عليه وزير الاقتصاد الإسرائيلي نير بركات، أثناء مشاركته في المعرض الفلاحي الدولي بمكناس سنة 2023، حين أمل “أن يمهد المغرب الطريق أمام إسرائيل لمشاركة خبراتها في مجال تكنولوجيا المياه والتكنولوجيا الزراعية وتكنولوجيا الصحراء مع دول العالم”، دون أن ينسى أن يشير إلى “أن المغرب في وضع جيد للغاية ليكون بوابة إلى أفريقيا وأن يشعر الإسرائيليون بالراحة عند القدوم إلى هنا وإقامة مشاريع مشتركة مع الشركات المغربية [8].
في هذا الإطار، وفي سياق التطبيع الأكاديمي، اتفق المعهد الوطني المغربي للهندسة الزراعية والمركز البركاني للبحوث الزراعية/ Israel’s Volcanic Centre of Agricultural Research في إسرائيل على تعزيز التعاون وتبادل الخبرات والمعرفة في مجال الزراعة والبحوث الزراعية. أُبرمت الاتفاقية على هامش المؤتمر الدولي الأول لتقنيات الإنتاج الغذائي من البحر والصحراء الذي عقد في الفترة من 18 إلى 20 أكتوبر/تشرين الأول 2022 في إيلات الإسرائيلية[9].
التطبيع الفلاحي في مقدمة المشاريع الإسرائيلية في أفريقيا
نشر موقع The Nation مقالا بعنوان: “العلاقات بين إسرائيل والمغرب: آفاق قطاع الزراعة في نيجيريا”[10]. وكما ورد إعلاه تقدم إسرائيل نفسها كمنقذ من وضع طبيعي لا سبيل أمام نيجيريا للفكاك منه لوحدها: “تحتل إسرائيل موقع الصدارة في ابتكار حلول علمية تعود بالنفع على البيئة والسكان في آن واحد”.
يرى المقال أن الشراكة بين المغرب وإسرائيل سيفيد نيجيريا في تحقيق الأمن الغذائي، معتمدا على تصريح النيجيري أولوفيمي أولادوني، الرئيس التنفيذي لمعهد التدريب على الإدارة الزراعية (ARMTI)، الذي قال: “إن تعزيز العلاقات الدبلوماسية بين [المغرب وإسرائيل] سيساعد نيجيريا على الاستجابة لمواجهة التحديات الديموغرافية والاقتصادية والبيئية للقطاع الزراعي”، وأضاف: “نفقد أراضينا كل عام بسبب زحف الصحراء. ولهذا السبب نحتاج إلى إسرائيل لخبرتها في مجال الري. نحن بحاجة إلى شراكتها وخبراتها وقدراتها في مواجهة هذه التهديدات البيئية للزراعة”.
يقدّم المغرب هنا كمكمِّل ثانوي لإسرائيل الراقية تكنولوجيا. فالموقع قدّم إسرائيل بلدا “يحتل الصدارة في ابتكار حلول علمية”، في حين وصف المغرب بـ”الرائد في إنتاج المأكولات البحرية الأفريقية وأكبر مصدر للسردين في العالم”. وهي نفس قسمة العمل الدولية التي أرساها الاستعمار منذ قرون: بلد متقدم متخصص في إنتاج ذو قيمة مضافة عالية/ إسرائيل، وبلد يصدر ثرواته الطبيعية/ المغرب.
من أجل أفريقيا بدون صهيونية
محاولة الكيان الصهيوني اختراق أفريقيا ليست جديدة، وأيضا مناهضة هذا التغلغل قديمة جدا. وقد سبق للشهيد المهدي بن بركة، أنْ جعَل من محاربته إحدى أولوياته، حين شارك في أبريل 1965، في مؤتمر دولي حول فلسطين في القاهرة، حيث قدم عرضا قوي اللهجة في موضوع “دور إسرائيل في إفريقيا”[11].
تخدم العلاقات بين النظام المغربي والكيان الصهيوني، أهداف هذا الأخير في اقتحام القارة عبر “منصة ثالثة”، وهي هنا المغرب. لذلك تمثل الدعوة إلى مقاطعة إسرائيل إحدى أكبر المهام المطروحة على منظمات النضال الشعبي في المغرب وفي القارة الأفريقية بمجملها. من أجل قارة بدون صهيونية كما حلم بذلك زعماء التحرر الوطني الأفارقة، وعلى رأسهم المهدي بن بركة.
بقلم: علي أموزاي
[1] – للمزيد حول العلاقات التاريخية بين النظام المغربي والكيان الصهيوني انظر- ي: https://alsifr.org/normalization-between-morocco-israel.
[2] – انظر- ي: يونس الحبوسي (16-05-2025)، “مكانة التطبيع في السياق النيوليبرالي المغربي”، https://attacmaroc.org/مكانة-التطبيع-في-السياق-النيوليبرال.
[3]– Dr. Eran Lerman and Nacima Kerouad (01/08/2024), “The Moroccan-Israeli Relationship: New Horizons and the Prospects of Cooperation in Africa”, https://jiss.org.il/en/lerman-kerouad-the-moroccan-israeli-relationship/.
[4]– David I. Klein (13-10-2022), “Peace with Israel, Jewish agricultural law have Morocco’s etrog industry blossoming”, https://www.timesofisrael.com/peace-with-israel-jewish-agricultural-law-have-moroccos-etrog-industry-blossoming/
[5]– Morr Link (26-05-2022), “Gateway to Africa? Economic Opportunities in Israel-Morocco Relations”, https://www.inss.org.il/publication/morocco-economy/.
[6]– منال شقير ((2024)، “التطبيع العربي الإسرائيلي/ الغسل الأخضر للاستعمار الاستيطاني في فلسطين والجولان”، مساهمة ضمن كتاب “تحدي الرأسمالية الخضراء”، تحرير حمزة حموشان وكايتي ساندويل، المعهد العابر للقوميات، دار صفصافة للنشر والتوزيع، مصر. ص 106- 107.
[7]– Daniel Essiet (12-10-2023), «Israel, Morocco relations: Prospect for Nigeria’s agriculture sector”, https://thenationonlineng.net/israel-morocco-relations-prospect-for-nigerias-agriculture-sector/.
[8]– Sara Zouiten (03-05-2023), “SIAM: Israel to Share Agri Tech, Water Management Expertise with Morocco”, https://www.moroccoworldnews.com/2023/05/33857/siam-israel-to-share-agri-tech-water-management-expertise-with-morocco/.
[9]– Daniel Essiet (12-10-2023), «Israel, Morocco relations: Prospect for Nigeria’s agriculture sector”, https://thenationonlineng.net/israel-morocco-relations-prospect-for-nigerias-agriculture-sector/.
[10]– Daniel Essiet (12-10-2023), «Israel, Morocco relations: Prospect for Nigeria’s agriculture sector”, https://thenationonlineng.net/israel-morocco-relations-prospect-for-nigerias-agriculture-sector/.
[11] – “الحسن الثاني.. ديغول.. بن بركة.. ما أعرفه عنهم”؛ موريس بوتان، دفاتر وجهة نظر ع 29، الطبعة الأولى 2014، ص 178.