الديون

عندما استعملت فرنسا الدين العام لأجل استعمار المغرب

عندما استعملت فرنسا الدين العام  لأجل استعمار المغرب

 

لقد بات معروفا على نطاق واسع، أن الحماية الفرنسية على المغرب تم كسبها بفضل الدين العام لهذا البلد. ولمَّح غي دو موباسان في روايته “بيل آمي”(1885) إلى هذا الاحتمال قبل 20 سنة! مع ذلك لا يزال حتى اليوم العديد من المؤرخين يتوهمون بأن الأمر مناورات مالية ودبلوماسية سرية، في حين  يركز القليل منهم على المديونية المغربية، وعلى تزايد الصعوبات المالية للبلاد، منذ منتصف القرن 19 الى غاية 1904

وثمة أسباب عديدة وراء المديونية المغربية التي كانت سببا وراء قرض سنة 1904. وعلى المدى البعيد، فإن افتقاد السلطان للموارد يرجع إلى تقسيم البلاد الى بلاد “المخزن” (تحكمها الدولة بشكل مباشر) وبلاد “السيبة” (منطقة غير خاضعة للسلطة المركزية، معارِضة ومُنشقَّة) -وهو ما شكل ثنائية كانت تمثل الوضع الحقيقي لنظام الإمبراطورية الشريفة[1]، وتشمل نفقات عسكرية ضخمة ومع ذلك فشلت في إخضاع القبائل المعادية.

وعلى المدى المتوسط، عانى المغرب من عجز تجاري أصبح بنيويا منذ نهاية سبعينيات القرن 19. وقد أدت الصادرات الهائلة للرأس المال الى أزمة غير محدودة في العملة، أنتجت تدفق رؤوس أموال واردة بشكل مستمر. هذا العجز هو نتيجة مباشرة لفتح المغرب حدوده التجارية، ابتداءً من عام 1850 عندما تم توقيع معاهدة مع المملكة المتحدة. واستنزف تمديد “حق الحماية” (الإعفاء من جميع الضرائب) الذي يحق للأوروبيين عموما التمتع به، الموارد المالية المغربية وقوض سلطة السلطان.

في هذا السياق من الضعف البنيوي، أدت الأحداث السياسية الأخيرة إلى نشوء أزمة. وفي سنة 1900، توفي الوصي باحماد وورث ابن أخيه الشاب عبد العزيز (22 سنة) العرش، ليصبح لعبة في أيدي القوى الأجنبية. إنفاقه الباذخ والفاحش (خط السكة الحديدية داخل قصر مكناس والسيارات والكاميرات الذهبية الصلبة..)، والذي دعمته البعثات الأجنبية…، ادى الى تفاقم العجز التجاري وأثبت الاتهامات بالكفر الموجهة إلى العاهل الشاب. والأسوأ من ذلك أن إصلاح نظام “الترتيب” (الضرائب) الذي أجري بناء على طلب من المبعوث البريطاني آرثر نيكولسون، خلخل النظام المالي: فقد أدى إلغاء الضرائب القرآنية التقليدية وإدخال ضريبة جديدة على أساس المساحة المزروعة إلى بزوغ معارضة واسعة النطاق. وفجأة وجد السلطان نفسه غير قادر على تحصيل أية ضرائب مباشرة من رعاياه

من المهم معرفة السياق الأوروبي لفهم كيف نشأ قرض سنة 1904. فقد كانت وزارة الخارجية الفرنسية تعمل بشكل تدريجي لضمان الهيمنة الفرنسية على المغرب، بينما تبذل كل جهد كي لا تسيء للقوى المتنافسة في زمن احتدام المنافسة الامبريالية. مذهب تيوفيل دولكاسي في “التغلغل السلمي” قاده إلى وضع آماله على السلاح المالي. وبدأ تدخل بنك باريس والأراضي المنخفضة (بنك باريبا حاليا)، والذي جسد أعلى تمويل عالمي، عن طريق دعم شركة غوتش (Société Gautsch) وهي جزء مجموعة شنايدر الصناعية. وكانت هذه الشركة هي التي أصدرت السندات المغربية سنة 1902 مقابل 7.5 مليون فرانك. بالرغم من ذلك، لم يكن رأسمال غوتش كافيا لتلبية توقعات وزارة الخارجية واضطرت إلى اللجوء لبنك باريبا، لكنهم لم يتوصلوا إلى أي اتفاق، وهددت خلافاتهم المبادرة التي اتخذتها فرنسا في المغرب: سنة 1903، تمت تلبية الاحتياجات الفورية للبلاد عن طريق قروض من انجلترا واسبانيا. كان لفرنسا ما أرادت فقط بعد الاتفاق الودي بين فرنسا وانجلترا الموقع في أبريل سنة 1904[2]، والذي جاء فيه أن القرض يمكن تعويمه في يونيو من ذاك العام.

من الدين إلى الحماية:

لم يحسن قرض 1904 من الوضع المالي في المغرب، بل العكس تماما. ولم يتلقى السلطان سوى 10.5 مليون فرانك من 62.5 مليون فرانك التي أقرضت للمغرب، والباقي استخدم لتسديد القروض السابقة ولتغطية مصاريف الإصدار. وقبل نهاية العام، لم يبقى لدى المخزن الكثير من السيولة. هكذا استهل قرض 1904 عقدا من الضائقة المالية، في الوقت الذي لم يكن لدى الإمبراطورية الشريفة الاختيار سوى التعاقد من أجل قروض جديدة لتسديد القروض السابقة. وفي عام 1910، قرض جديد موحد يبلغ 101 مليون فرانك شدد الخناق المالي للبلاد.

بالرغم من هذه الدوامة الفارغة، فإن المديونية المغربية، المحسوبة بالمعايير المعتادة، كانت متواضعة بشكل ملحوظ. ولم يبلغ الدين، الذي يقاس بالمؤشرات المعتادة (الدين العام/الناتج الداخلي الخام، انظر-ي الإطار أسفله) سوى 10% سنة 1904 و 35% سنة 1912. وتكشف هذه الأرقام الضعيفة طبيعة هذه المديونية. إذا كان المغرب قد أنتج ما يكفي من الثروة لكي لا يبدو وزن الدين ساحقا، فإن السلطة المركزية لم تتمتع بتلك الثروة. في الواقع، لقد قام التوسع الأوروبي بكسر الرابط الضريبي بين المخزن وشعبه. عقب الإصلاح الضريبي الكارثي سنة 1901، اتهم السطان عبد العزيز بكونه خادما لأوروبا، الشيء الذي أثار تمردا عاما. في النهاية، تم عزله لصالح أخيه عبد الحفيظ، لكن الوضع لم يتغير. في الفترة مابين سنة 1903 و1912، بلغ الدين حوالي 10 إلى 16 عاما من الإيرادات الضريبة، والتي استحوذت فيه خدمة الدين على 40% كل سنة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يتم حساب مجموع الدين عن طريق تجميع كل الديون المغربية في سنة معينة. يتم استنتاج الناتج الداخلي الخام وفقا لمعدل تضخم الفرانك من خلال الأرقام التي قدمها سمير أمين (1966) وأنجوس ماديسون (2006). مؤشر الأسعار المستعمل لحساب الناتج الداخلي الخام بالفرانك الثابت مبني على أساس المؤشر المقدم على موقع توماس بيكيتي وعلى الجداول الاقتصادية للمغرب 1915-1959، وزارة الاقتصاد الوطني، قسم التنسيق الاقتصادي والتخطيط، الخدمة المركزية للإحصاءات، 1960. الأرقام المذكورة هنا(قبل وبعد 1912) متعلقة فقط بالجزء الفرنسي من المغرب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بنك باريبا، فاعل رئيسي:

لكن قوة المديونية باعتبارها أداة للغزو الاستعماري لا تكمن فقط في طبيعتها المالية، لأنها(المديونية) ذات طابع سياسي: إذ تفرض خلق المؤسسات اللازمة لضمان سير إدارتها والتي تتعدى حتما على وظائف الدولة.

منذ توقيع اتفاقية القرض سنة 1904 تم تشكيل إدارة لمراقبة المديونية وجمع الإيرادات الجمركية الأساسية لخدمة الدين. بعد ذلك في سنة 1910 ستجمع هذه الإدارة المحاصيل الجمركية والضرائب الحضرية بالدار البيضاء بالإضافة إلى تنظيم الشرطة والأمن داخل البلد نفسه .

وتضمن اتفاق قرض 1904 أيضا انشاء بنك للدولة بالمغرب (BEM) الذي سيتم احداثه سنة 1907 بعد مؤتمر الجزيرة الخضراء(سنة 1906)[3]، والذي تديره القوى الأجنبية الموقعة للاتفاق، إلا أنه يبقى الوحيد الذي يحمل مفاتيح النظام النقدي المغربي: بحيث يحصل على احتكار إصدار العملة-النقد، ووضعية آمر الصرف وحق الأفضلية في مسألة الاقتراض مستقبلا.

فى سنة 1912, لعب باريبا، أحد الفاعلين الاقتصاديين، مكانة مهمة في المغرب المحتل حديثا. وهو البنك الرائد في القروض ما بين سنوات 1904 و1910، على هذا النحو يقود باريبا بنك المغرب (BEM): إن رئيسه عند تأسيسه هو ليوبولد رونالد نائب رئيس باريبا.

بحلول سنة 1912، حرص بنك باريبا على تطوير أنشطته في المغرب من خلال الائتلاف المصرفي الذي يقوده، إذ أسست الشركة العامة المغربية (Génaroc) التكتل الكبير والحاضر في جميع مجالات الاقتصاد المغربي.

لخص رئيس بنك المغرب(BEM)، ادموند سبيتزر بقوله: “بنك باريس الأراضي المنخفضة هو القائد بلا منازع لجميع مجموعات أصحاب المصالح في المغرب: في الواقع، هو يسيطر على مجمل القطاعات المهمة في الاقتصاد بالتعاون مع بنك دولتنا، وأومنيوم شمال إفريقيا (ONA) [4].

المديونية، لأنها تتضمن التحويلات المالية المنتظمة، على المدى الطويل بإضفاء الطابع الرسمي عليها من قبل مؤسسات جديدة، تغير بشكل مستمر توازن القوى داخل الاقتصاد. حقيقة أنها لعبت دورا أساسيا في استعمار المغرب – كما في مصر وتونس-وقد تم تشكيل اقتصاد هذه البلدان خلال الفترة الاستعمارية.

إذا كانت أهمية باريبا في الاقتصاد الاستعماري المغربي كبيرة، من المهم الإشارة إلى أن السوق المغربية عديمة الأهمية بالنسبة لباريبا الذي ينشط في جميع أنحاء العالم. حدة هذا التباين يزيد من عدم التوازن في العلاقة الاستعمارية.

 

الكاتب: آدم باربي

ترجمة: خديجة معراس و الحسين فهمي

المصدر: http://orientxxi.info/magazine/quand-la-france-colonisait-le-maroc-par-la-dette,1709

——–

إحالات:

1-التعارض بين بلاد المخزن وبلاد السيبة لا يجب أن يبالغ فيه وألا يفهم أنه اختلال وظيفي. فاعتراف المخزن بمنطقة منشقة بداخله على العكس من ذلك حقيقة بنيوية في علم الاجتماع السياسي في مغرب القرن 19.انظر بن مليح : “(Structures politiques du Maroc colonial 1990)”.

2- وقعت المملكة المتحدة وفرنسا 8 في أبريل 1904 على سلسلة من الاتفاقيات الثنائية التي يشار إليها عادة باسم “اتفاقية الوفاق” لحل عدد من النزاعات الاستعمارية، بما في ذلك إقرار استعمار الحكم البريطاني لمصر والحماية الفرنسية في المغرب.

3-مؤتمر الجزيرة الخضراء هو مؤتمر دولي حول المغرب، الذي امتد بين 16 يناير و 7 أبريل سنة1906 برعاية الولايات المتحدة، وائتلاف الإمبراطورية الألمانية وحلفائها: النمسا-المجر والمملكة الايطالية؛ فرنسا، وحليفتها الإمبراطورية الروسية، والمملكة المتحدة بريطانيا العظمى وأيرلندا.  ومملكة أسبانيا، والبرتغال وبلجيكا وهولندا والسويد. النتائج التي توصلت إليها تضع المغرب تحت المراقبة من قبل هذه القوى العظمى، تحت غطاء الإصلاح والحداثة وتدويل الاقتصاد المغربي.

4-Michel Poniatowski, Mémoires, éditions Plon/Le Rocher (Paris), 1997, p. 243.

زر الذهاب إلى الأعلى