بيانات وتقارير

وداعا رفيقنا عبد الرحيم بومليك مات رب أسرة كَمَداً، ورَفْعُ البصمات يؤكد مسؤولية نظام قائم على الاستغلال والاستبداد.

من يعرف عبد الرحيم عن قرب، يدرك مدى اقباله على الحياة اقبال المحب المسلح بقدرة هائلة على مواجهة تقلباتها مهما جلبت من مقاساة. هي حقيقة ليس بإمكان ذلك الغموض الذي يلف ابتسامته الدائمة نفيها. يكفي حجة على ذلك عشقه للكتب والموسيقى وحلمه بالثورة، منذ مشاركته بأول تظاهرة طلابية ذات ضخامة انفجرت خلف أسوار ملحقة القاضي عياض، جامعة بن زهر فيما بعد، بكلية الآداب أولا ثم بكلية العلوم التي كان يدرس بها، ذات ربيع من أواخر ثمانينيات القرن الماضي. كان بدوره حالما بالثورة مثل أغلب رفاقه الطلاب، ولهذا واصل النضال المنظم بجمعية المعطلين مطالبا بالحق في الشغل بعد مغادرته الجامعة والتحاقه بقريته، سكورة اقليم ورزازات، ومزاولته العمل الفلاحي.

لم ينهزم عبد الرحيم ويَمُتْ كمدا الا بعد أن وصل السكين العظم. فقد توالت سنوات الجفاف على واحته كبقية واحات المغرب وقراه خاصة الجنوب شرقية منها. هذه الأخيرة منهكة سلفا بفعل ضعف التساقطات والمناخ شبه الصحراوي، ثم أتى الاحتباس الحراري ليدفع صوب الهلاك تلك الواحة التي كانت يوما جنة وارفة الظلال بأشجارها المثمرة وغلاتها وحصادها ودرسها ومواشيها ودواجنها وزيت زيتونها وخبز “الكانون”…

لم تكن الثروات تلك، تقدر بثمن. لكن الجفاف أتى على كل شيء. ليس الاحتباس الحراري والجفاف الناتج عنه قدرا من السماء أو مجرد ظاهرة طبيعية كبقية الظواهر كما قد نعتقد. إنه نتاج سلوك بشري. نقصد سلوك الطبقة الرأسمالية التي تسببت في تلويث كوكب الأرض ورفع درجة حرارته نتيجة نموذجها المتبع في الانتاج والاستهلاك.. وحيث الاستخدام المكثف للوقود الأحفوري والفحم.. في الصناعة وغيرها، وما ينتج عنه من غازات دفيئة.. ما أدى إلى اختلالات بيئية وظواهر غير عادية، من فيضانات مخيفة، خلل في انتظام التساقطات وحجمها، حرائق غابات…

لقد دُفِعَ الفلاحون الصغار، منتجو حاجياتنا من الغذاء، بفعل هذه المتغيرات وغيرها من الضغوط الشديدة، إلى الهاوية، بل إلى الانتحار. أضحى الانتحار معضلة من الوزن الثقيل. بفرنسا مثلا ينتحر مزارعان اثنان كل يوم، وقد أبدت وسائل الاعلام اهتمامها بتعميم عديد مقالات وبرامج تلفزية حول الموضوع. لم يعد ممكنا التغاضي عن الظاهرة، بل يجب فتح النقاش والحصول على شهادات بشأنها. واذا عرفنا أن محصولنا من القمح لهذه السنة (2020) لن يتجاوز 20% من المتوسط، ندرك حجم الأزمة الاجتماعية الوشيكة.

لطالما تحمل الفلاحون الصغار لمغرب الجنوب الشرقي المقصي، المهمش والقاحل قساوة الظروف الطبيعية، وفي عز القساوة تلك، أتى “مخطط المغرب الأخضر” (2008-2018) ليطلق رصاصة الرحمة على ما تبقى من زراعة معيشية. كيف لا وهو المخطط الذي جاء لدعم كبار اقطاعيي الفلاحة وتسخير كل الامكانيات لصالحهم، من سدود وموارد طبيعية وعقارات وتسهيلات مالية وادارية واعفاءات ضريبة، بل ومن تحفيظ للأراضي الفلاحية ثم السلالية تمهيدا لبيعها للرأسماليين الكبار بقطاعي الفلاحة والسياحة بأبخس الأثمان.. أما واحات الفقراء المهددة بتَحَوُّلِ أشجارها إلى حطب، فقد همشها المخطط واستنكف عن نجدتها وعن انقاذ المزارعين الصغار من الانمحاء والاندثار كشريحة اجتماعية.

في هذا السياق وضع رفيقنا حدا لحياته كمدا، في الزمن الخطأ، زمن كورونا الذي عمق تأزم أوضاع المقهورين والمقهورات. كان موته تنفيسا لضغوط اقتصادية واجتماعية ناءت بكلكلها على صدره المنهك. غير أن موته بنفس الوقت صرخة ادانة لسياسات أقلية حاكمة تستحوذ على الثروات وتترك الأغلبية الساحقة ضحية العوز والبطالة. وهو واقع عرته جائحة كورونا بكشفها هول ما يعانيه المغاربة من حرمان، إذ حتى العمل الهش، مصدر قوت ملايين المغاربة اليومي الذي تعرض للتدمير، اتضح أن دولة الأغنياء لم تكن لتفكر في انقاذ المتضررين من توقفه عن طريق صندوق كورونا الذي أنشأته، بقدر ما كانت تفكر في انقاذ الشركات الرأسمالية مفضلة بهكذا سياسة، الأرباح على الأرواح.

مات عبد الرحيم المناضل، عضو جمعية أطاك المغرب، لكنه سيظل حيا في قلوب رفاقه ورفيقاته وكل من عرفوه. مات وكل القرائن تشير إلى المسؤول عن وفاته: النظام القائم على الاستغلال والاستبداد.

04/06/2020.
حسن الطويل.

زر الذهاب إلى الأعلى