دروس تجربة الشعب اليوناني في مقاومة شروط الدائنين المجحفة
أزيكي عمر
كاتب عام جمعية أطاك المغرب-عضو الشبكة الدولية للجنة من أجل إلغاء ديون العالم الثالث
تكمن أهمية تجربة اليونان بصدد مسألة المديونية في كون هذه الأخيرة تشكل ذريعة رئيسية لدى الدائنين لفرض إجراءاتهم التقشفية بشكل صارخ. إلا أن نجاح مأموريتهم عرقلها الشعب اليوناني باختياره، في 25 يناير 2015، حكومة ائتلاف سيريزا اليساري، وإرسائه لجنة تقصي الحقيقة حول الدين العمومي في 4 أبريل الماضي، ورفضه بأغلبية كبيرة (61,3%) في استفتاء 05 يوليوز الحالي الخضوع لبرنامج الإذعان الذي قدمه في 25 يونيو الفائت “الثالوث” (الترويكا) الذي يتشكل من المفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي.
تركزت إجراءات خطة الإنقاذ الجديدة (الثالثة منذ 2009) على مواصلة تحميل أعباء أزمة الديون اليونانية للفئات الشعبية لصالح البنوك والرأسماليين. تجلى ذلك بكل وضوح في الأضرار الاقتصادية والاجتماعية الكارثية التي تكبدتها الفئات الشعبية والطبقة العاملة اليونانية من جراء تطبيق الحكومات اليمينية الأربع السابقة للشروط المجحفة التي تضمنتها الخطتين السالفتين (الأولى في ماي 2010 والثانية في فبراير 2012). فمنذ بداية الأزمة (2008-2009) ارتفعت الضرائب بــ 337% بالنسبة للسكان الفقراء وفقط 9% لكبار الأغنياء. وفقد 10% من السكان الفقراء نسبة 86% من مداخيلهم في حين لم يفقد 30% من السكان الأغنياء سوى ما بين 17 و20%[1]. وألغي 150 ألف منصب شغل في القطاع العمومي، وانخفضت الأجور[2] ومعاشات التقاعد بنسبة 45%، وارتفع معدل البطالة ليبلغ نسبة 28% ويفوق 60% لدى الشباب. لكن الدائنون الجائرون يطالبون بتعميق الهجومات على الأجور والتقاعد، ورفع الضرائب على المواد الاستهلاكية والخدمات العمومية، وخوصصة المرافق العمومية، وتقليص النفقات العمومية، إلخ.
قدمت سيريزا برنامجا مبنيا على معالجة نتائج هذه الأزمة الاجتماعية الحادة (الأزمة الإنسانية) وشرعت حكومة أليكسيس تسيبراس بتطبيقه منذ أواسط مارس 2015. ويتضمن على سبيل المثال إمداد الأسر الفقيرة بالكهرباء مجانا، وتقديم مساعدات غذائية للمحرومين والذين فقدوا عملهم وتقاعدهم، وضمان مجانية الخدمات الصحية والنقل العمومي للأسر التي تعيش تحت عتبة الفقر، إلخ. إنها إجراءات شعبية تقطع مع النهج النيو-ليبرالي الذي يرتكز على ضمان أرباح المقاولات الرأسمالية على حساب الأجور. ولذلك سعت مجموعة اليورو[3] جاهدة لوقف إنجازها. وشكلت مسألة تسديد الديون العمومية والخاصة الهائلة أداة ضغط فعالة. فمنذ فاتح يوليوز 2015، تخلفت اليونان عن تسديد مبلغ 1,5 مليار يورو لصندوق النقد الدولي، وربما ستتخلف أيضا عن تسديد 17 مليار يورو المستحقة للبنك المركزي الأوروبي في يوليوز الحالي وغشت المقبل.
منذ 2010 وبداية الأزمة في اليونان وحتى الآن (يوليوز 2015)، حصلت اليونان على 260 مليار يورو من الدائنين العموميين منها 230 مليار من قبل حكومات منطقة اليورو و30 مليار من صندوق النقد الدولي.[4] جرى تقسيم هذا التمويل في ارتباط مع خطتين للإنقاذ. وقبل تفصيل الخطتين، سنعطي نظرة على ديون اليونان قبل تدخل “الثالوث”.
مديونية اليونان قبل تدخل “الثالوث”
بلغت الديون العمومية اليونانية 322 مليار يورو في نهاية 2014 ممثلة أكثر من 177% من الناتج الداخلي الخام[5]. لكن حتى قبل 2007، كانت مديونية اليونان تمثل 103% من الناتج الداخلي الخام. فرغم زيادة كبيرة في الضرائب خلال سنوات 1990، يعود ارتفاع مديونية اليونان على نحو واسع إلى معدلات فائدة خيالية (بين 1988 و2000) وانخفاض في المداخيل العمومية بسبب التحفيزات والإعفاءات الضريبية لصالح الرأسماليين بدءا من سنة 2000[6]. وهذا ما أكده تقرير لجنة تقصي الحقيقة في الدين العمومي اليوناني بشكل واضح: ” لم يكن تنامي الدين العمومي نتيجة لنفقات عمومية طائلة، حيث أن هذه الأخيرة ظلت في الحقيقة ضعيفة جدا مقارنة مع النفقات العمومية في البلدان الأخرى بمنطقة اليورو[7]. نتج الدين أساسا عن تسديد معدلات فائدة باهضة جدا للدائنين، وعن نفقات عسكرية مهولة وغير مبررة[8]، وعن تقلص في المداخيل الضريبية من جراء تهريب الرساميل، وعن تكاليف إعادة رسملة البنوك الخاصة من قبل الدولة، وعن الاختلالات الدولية التي أحدثها نواقص نموذج الاتحاد المالي. أحدث تبني عملة اليورو في اليونان ارتفاعا مهولا في الدين الخاص لدى كبريات البنوك الخاصة الأوروبية وكذا البنوك اليونانية. وتضخمت هذه الأزمة البنكية لتؤدي إلى أزمة الديون السيادية لليونان”.[9]
“خطة الإنقاذ” الأولى في 2010
وفق اتفاق أبرم يوم 2 ماي 2010 منح “الثالوث” قروضا لليونان بمبلغ 110 مليار يورو على مدى ثلاث سنوات (منها 80 مليار يورو ديون ثنائية الأطراف إزاء بلدان منطقة اليورو و30 مليار يورو متعددة الأطراف إزاء صندوق النقد الدولي). ومقابل “خطة الإنقاذ” الأولى التي كان من المفترض أن تنتهي في ماي 2013، التزمت اليونان بتطبيق إجراءات برنامج تقويم هيكلي نسرد منها: إلغاء الشهرين 13 و14 في الوظيفة العمومية وتجميد أجور الموظفين لمدة ثلاث سنوات، تقليص معاشات التقاعد، رفع الضريبة على القيمة المضافة إلى 23%.
بالموازاة مع ذلك، وعلى إثر مستتبعات أزمة الرأسمالية العالمية في 2008، سيسمح البنك المركزي الأوروبي للبنوك المركزية بمنطقة اليورو بشراء سندات الديون العمومية والديون الخاصة في أسواق التداول الثانوية. إن “الاتفاق الأول لمنح القروض في سنة 2010 كان يهدف بالدرجة الأولى إلى إنقاذ البنوك الخاصة اليونانية والأوروبية والسماح لهذه البنوك بتقليص حصتها من السندات العمومية اليونانية ذات المخاطر”[10].
تعمق الأزمة واتفاق “خطة الإنقاذ” الثانية في 2012
أدى تعمق الأزمة وإجراءات التقشف المطبقة إلى استنزاف الاقتصاد اليوناني وازدادت من جديد حاجته إلى السيولة النقدية. وخوفا من انهيار مالي قد تتنقل عدواه إلى البلدان الأوروبية الأخرى، الجنوبية والشرقية منها بالخصوص، تدخل الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي مرة أخرى ليتم وضع خطة الإنقاذ الثانية في 21 فبراير 2012[11] التي تضمنت إعادة هيكلة الدين العمومي اليوناني. بموجب هذا الاتفاق ستحصل اليونان على حوالي 145 مليار يورو من الدائنين العموميين (بلدان منطقة اليورو وصندوق النقد الدولي) صرفت طيلة مرحلة خطة الإنقاذ الثانية التي من المفترض أن تكتمل مع نهاية سنة 2014. لكن هذه الأموال الطائلة “لن يصل منها فعلا سوى 10% إلى صناديق الميزانية العمومية” وفق مداخلة إريك توسان في مداخلته أمام البرلمان اليوناني يوم 17 يونيو لتقديم تقرير لجنة تقصي الحقيقة. أفاد إريك أيضا أن “جزءا كبيرا من مبالغ القروض قدرت بــ 45 مليار يورو ذهبت إلى إعادة رسملة البنوك اليونانية الخاصة”، وأن “الأجراء وصناديق المعاشات هم الذين تحملوا فعلا تكاليف إعادة هيكلة الديون اليونانية وليس البنوك الخاصة”. وأضاف: “ومن واجبنا أن نقول للرأي العام بأن الأموال التي سيطلبها البنك المركزي الأوروبي لليونان في يوليوز وغشت المقبلين (2015)، والتي تقدر بحوالي 17 مليار يورو، هي سندات اليونان اشتراها البنك الأوروبي في السوق الثانوية بأثمان ناقصة (منذ 2011)”[12].
تنامي المقاومات العمالية والشعبية ضد سياسات التقشف
اتسعت المقاومة العمالية والشعبية اليونانية بشكل كبير ضد إجراءات التقشف، حيث تجاوز عدد الإضرابات 32 إضرابا عاما منذ 2010 وحطمت سنة 2012 رقما قياسيا بــ 12 إضراب عام. وكان هذا في سياق تنامي النضالات في القارة الأوروبية خصوصا في البلدان الجنوبية منها التي تأثرت بشكل عنيف بالأزمة الرأسمالية، حيث شهدت إسبانيا إضرابات عامة في 2010 و2012 و2013، والبرتغال إضرابين عامين في سنتي 2012 و2013 واضراب عام واحد كل سنة خلال 2010 و2011، كما خيض إضراب عام على المستوى الأوروبي في 14 نونبر 2012[13]. وتوسعت مبادرات وأشكال التضامن الأممي مع الشعب اليوناني. خلال هذا الصعود النضالي، تنامى أيضا الوزن السياسي لائتلاف سيريزا اليساري (الذي كان يضم 13 منظمة يسارية من مختلف المشارب) وسيصبح المعارض الرئيسي في اليونان منذ 2012، وسينتصر في انتخابات 25 يناير 2015 ويحصل على أغلبية برلمانية ويتقلد زعيمها أليكسيس تسيبراس رئاسة الحكومة.
المرحلة الثالثة الحرجة مع الدائنين (2015)
ستشرع الحكومة الجديدة في مفاوضات حول برنامج الإجراءات الجديدة التي طرحها الاتحاد الأوروبي والبنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي. وافقت الحكومة اليونانية على تقديم تنازلات حتى لا يخنقها الدائنون العازمون على وقف التمويل، ومنها القبول المبدئي على تسديد كامل الديون وفق استراتيجية “عصيان مضبوط”. وفي أبريل 2015، في الوقت الذي بدأت فيه الحكومة بتطبيق عديد من الإجراءات لصالح الفقراء وضد الفساد والتهرب الضريبي، أرسى البرلمان اليوناني لجنة تقصي الحقيقة حول الدين العمومي اليوناني وأوكلت الرئاسة العلمية لإريك توسان الناطق باسم الشبكة الدولية للجنة من أجل إلغاء ديون العالم الثالث[14]. وهذا ما جعل البنك المركزي الأوروبي والمفوضية الأوروبية وصندوق النقد الدولي يصعدون ضغوطاتهم بشكل حاد خصوصا مع قرب آجال التسديد وقد طبقوا الصمت التام على لجنة تقصي الحقيقة في الدين اليوناني. وكان مخرج الحكومة هو تنظيم الاستفتاء الشعبي الذي انتهى برفض الشعب اليوناني بأغلبية كبيرة إملاءات الدائنين المهينة.
أبان حزم الشعب اليوناني عن الأهداف السياسية الحقيقية للدول الإمبريالية الأوروبية المتمثلة، أولا، في منع أي مساس بأسس الخيارات النيو-ليبرالية التي طبقت منذ بدايات 1980، والتي تفرضها بشكل شنيع على البلدان الضعيفة داخل أوروبا (بلدان جنوب أوروبا وبلدان أوروبا الشرقية التي انضمت إلى منقطة اليورو). وثانيا، في عزمها على تدمير سيادة شعوب هذه البلدان التي تهيمن عليها ومصادرة حقها في تقرير مصيرها الاقتصادي والاجتماعي. وثالثا، في تكالبها لخنق الحكومة اليونانية وإسقاطها مادامت تجسد هذه السيادة الشعبية. ورابعا، في استعجالها بالقضاء على هذا “القوس اليساري”[15] قبل أن يطول مداه ويتوسع تأثيره لتحفيز تجارب يسارية جذرية أخرى كبوديموس في إسبانيا وانتقالها الى ايرلندا والبرتغال أو الى إيطاليا أو فرنسا. إن البورجوازيات الأوروبية تخاف من هذه القوى السياسية الشعبية الناشئة أكثر بكثير مما تخاف من الانهيار الاقتصادي المفترض. فقد تبين أن تخلف اليونان عن الدفع لم يرعب كثيرا البنوك والبورصات. إن تعديل موازين القوى لصالح الحكومة اليونانية الحالية يمر عبر تكثيف التضامن على المستويات العالمية والجهوية. فخمس سنوات من مقاومة غطرسة الدائنين مع تدهور عنيف لشروط العيش والحياة استنزفت القوى النضالية الذاتية للشعب اليوناني. كما أن اليمين الأوروبي يسعى إلى تكسير هذا التضامن عبر مواجهة اليونان مع باقي بلدان أوروبا وإطلاق الإهانات على غرار ما كانت تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية ضد البلدان التي خرجت عن طاعتها في أمريكا اللاتينية أو غيرها. ومن واجبا العمل على توسيع التضامن مع التجربة اليونانية والتعريف بها لكون نجاحها سيشكل أملا تقدميا للشعوب التي ترزح تحت نير الديون والإمبريالية.
الحل الجذري يكمن في إلغاء أحادي الجانب للديون
أوضح تقرير لجنة تقصي الحقيقة حول الديون العمومية اليونانية الذي قدمته أمام البرلمان اليوناني يومي 17 و18 يونيو الماضي بأن الديون تعد أداة الهيمنة السياسية والاقتصادية وهي العقيدة التي باسمها فرض برنامج التقويم النيوليبرالي على الطبقة العاملة والفئات الشعبية[16]. إنها سلاح الدمار الاجتماعي الشامل كما سماها إريك توسان. فالتقويمات الكارثية المفروضة على الاقتصاد والمجتمع اليوناني برمته أدت إلى تدهور سريع لمستويات العيش في تناقض تام مع العدالة الاجتماعية والتماسك الاجتماعي والديمقراطية وحقوق الإنسان. وتبقى الديون حاجزا أمام أي سياسة اجتماعية واقتصادية بديلة. ومن هنا ضرورة إلغائها. وقد قدمت لجنة تقصي الحقيقة في تقريرها الحجج الدامغة لهذا الإلغاء بتفصيل كيفيات تحويل أغلب قروض اليونان بشكل مباشر إلى المؤسسات المالية، وخرق الدائنين لأبسط الالتزامات الدولية والوطنية على مستوى حقوق الإنسان والقانون، وعدم صلاحية عقود القروض. وخلصت اللجنة إلى أن الديون إزاء صندوق النقد الدولي، والبنك المركزي الأوروبي، وصندوق الاستقرار المالي والأوروبي، والقروض ثنائية الأطراف إزاء الدول الأوروبية، وكذا الديون ازاء الدائنين الخواص، هي جميعها ديون كريهة، وغير قانونية (غير شرعية)، وغير مشروعة، وغير محتملة (لا تطاق)[17]. لذلك وجب على اليونان أن يشطب عليها بقرار سيادي أحادي الجانب. ويمكن لمثل هذا القرار أحادي الجانب أن يرتكز على الحجج التالية[18]:
1.سوء النية السافر لدى الدائنين أعلاه الذين أرغموا اليونان، منذ 2010، على خرق قانونها الوطني والتزاماتها الدولية فيما يخص حقوق الإنسان،
2.سمو حقوق الإنسان على الاتفاقات الأخرى كتلك التي وقعت عليها الحكومات السابقة مع الدائنين في “الثالوث،
3.استعمال الإكراه من قبل الدائنين،
- وجود عقود تعسفية تخرق بشكل سافر سيادة الدولة اليونانية وتدابير دستورها،
- الحق الذي يضمنه القانون الدولي لكل دولة كي تسن إجراءات مضادة عندما يفرض عليها الدائنون عقودا غير قانونية (غير شرعية) وغير مشروعة أبرمت عن تعمُد لإلحاق الضرر بالسيادة الوطنية.
وبخصوص الطابع غير المحتمل (لا يطاق) للديون، يمكن لكل للسلطات اليونانية أن تستند بحكم القانون إلى حالة الضرورة التي تسمح لدولة تواجه ظرفا استثنائيا أن تصون المصالح الحيوية لشعبها إزاء خطر بالغ ومحدق. وفي مثل حالة الأزمة الإنسانية باليونان، يمكن لها أن تعفى من تطبيق التزاماتها الدولية فيما يخص الديون لكون هذه الأخيرة تزيد من هذا الخطر، وينطبق ذلك على حالة الديون التي تطالب بها مجموعة اليورو وصندوق النقد الدولي. وأخيرا، تمتلك الدول حق أن تعلن من جانب واحد تخلفها على تسديد الديون عندما يكون تسديد خدمة الدين غير محتمل (لا يطاق). في مثل هذه الحالة لا تقوم بأي خرق قانوني وتكون معفية من أي مسؤولية. إن كرامة الشعب اليوناني تساوي أكثر من دين لا قانوني (لاشرعي)، ولا مشروع، وكريه، ولا محتمل (لا يطاق).
هذه الخلاصات التوجيهية هي التي أكد عليها بحذافيرها إريك توسان في تصريحه حول النصر التاريخي للشعب اليوناني وهو يصوت بــ لا ضد إملاءات الدائنين[19]. إنها إشارات إلى الحكومة اليونانية كي تقدم على خطوة التشطيب على ديونها بقرار سيادي أحادي الجانب وذلك بناء على عديد من التجارب التاريخية الناجحة. فقد سبق لأريك توسان أن مثل شبكة اللجنة من أجل إلغاء ديون العالم الثالث في اللجنة من أجل تدقيق الديون التي أرساها الرئيس الاكوادوري رافائيل كوريا (Rafael Correa) في يوليوز 2007. وبناء على تقرير اللجنة الذي قدمته في نونبر 2008 قررت حكومة الإكوادور الجديدة تعليق تسديد سندات الديون التي بلغت آجالها، بعضها في عام 2012، وأخرى في عام 2030. وأخيرا، خرجت حكومة هذا البلد الصغير منتصرة في صراعها مع أصحاب البنوك في أمريكا الشمالية الذين يملكون سندات ديون الاكوادور. وقبل الإكوادور، كانت تجربة الأرجنتين التي أصدر رئيسها إدواردو دوهالدي (Eduardo Duhalde) يوم 2 يناير 2002 مرسوما نص على أكبر عملية وقف تسديد الديون الخارجية في التاريخ بمبلغ يفوق 80 مليار دولار، سواء إزاء الدائنين الخواص أو إزاء البلدان الأعضاء في نادي باريس. وبينت الأرجنتين هي الأخرى أن بلدا يمكنه وقف تسديد ديونه على مدة طويلة دون أن يقدر الدائنون على تنظيم ردود أفعال انتقامية. وهناك عديد من الأمثلة الأخرى لإلغاء الديون تاريخية (كوبا وروسيا والمكسيك وتركيا وناميبيا والموزمبيق، إلخ) وحديثة (البارغواي، إيسلندا، إلخ) يمكن الاستناد عليها للتعبئة الشعبية من أجل إلغاء الديون[20]. ويشكل تدقيق الديون خطوة ضرورية في هذه التعبئة حتى تستوعب الجماهير خطورة الديون وكونها أداة نهب الثروات واستعباد مباشر وإلغاء للسيادة. وطبعا يترافق إلغاء الديون مع بدائل جذرية أخرى كفرض رقابة صارمة على الرساميل والسلع وتأميم البنوك وجميع الملك العمومي والثروات الطبيعية والقطاعات الاستراتيجية للاقتصاد، إلخ، وضمان سيادة شعبية حقيقة عليها[21].
تشكل تجربة اليونان درسا نوعيا حيث أن الإرادة الشعبية تجسدت في برنامج ائتلاف سيريزا اليساري الذي جرى التصويت عليه بشكل ديمقراطي، وفي إرساء حكومة حاولت من موقع ضعف كبير أن تقاوم ضغوطات دائنين أقوياء، وفي برلمان صادق على الإجراءات الشعبية وأسس لجنة تقصي الحقيقة حول الدين العمومي اليوناني، ثم في التصويت بـ لا ضد خطط الدائنين المجحفة. إنها تفتح نقاشا استراتيجيا حول حكومة تحالف يسارية تصل إلى الحكومة وتصارع الطبقات المهيمنة والامبريالية. وليس بلوغ الرئاسة سوى مرحلة أولى في معركة النضال ضد الرأسمالية وبناء السلطة الشعبية الضرورية لإرساء “بدائل انعتاق البشرية من جميع أشكال الاضطهاد: الاضطهاد الاجتماعي والاضطهاد البطريركي والاضطهاد الاستعماري الجديد والاضطهاد العنصري والاضطهاد الطبقي والاضطهاد السياسي والاضطهاد الثقافي والجنسي والديني”[22].
والمغرب؟
تاريخيا، ارتبطت مديونية المغرب بتبعية الاقتصاد المغربي للقوى المُهيمنة الأوروبية بالخصوص وبأطوار اندماجه في الاقتصاد الرأسمالي العالمي بشكل عام. فالغزو الإسباني الذي كان في 1859-1860 نتجت عنه ديون استعمارية كان المغرب يسددها طوال ربع قرن. وتواصلت هذه الديون الاستعمارية مع بداية القرن 20، عندما كان المغرب يحصل على قروض من عصبة بنوك دولية تحت إشراف بنك باريس والأراضي المنخفضة لضمان تغلغل الرأسمال الفرنسي بالبلاد. وفي 1956، سنة الاستقلال الوهمي، التزم الحاكمون بتحمل جميع أعباء الدين الخارجي الذي أبرمه المغرب طيلة الفترة الاستعمارية 1906-1956. ونظرا لاستنزاف قدراته المالية، تدخل البنك العالمي منذ بداية الستينات لتبدأ سلسلة القروض التي ستؤدي إلى أزمة الديون وتخلف المغرب عن تسديد خدمات الدين الخارجي للدول والبنوك الدائنة. ومن هنا تدخل صندوق النقد الدولي عبر برنامج التقويم الهيكلي دام عشر سنوات (1983-1993) نتج عنه تدهور رهيب في الأوضاع المعيشية للأجراء والفئات الشعبية. وتتواصل السياسات النيو-ليبرالية التي تمليها المؤسسات المالية والتجارية الدولية (البنك العالمي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية)، كما تتعمق التبعية إزاء قطبي الامبريالية الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية من خلال اتفاقات استعمارية جديدة تسمى اتفاقيات التبادل الحر. ومع انفجار أزمة الرأسمالية العالمية في 2007، ستتضخم مديونية المغرب بشكل كبير (78% من الناتج الداخلي الخام) وستنتج عنها نفقات هائلة وستتعمق الإجراءات التقشفية الصارمة التي ترافقها.
تنطبق نفس المواصفات التي حددتها لجنة تقصي الحقيقة حول الدين العمومي اليوناني بكون الديون شكلت سلاح الدمار الاجتماعي الشامل على المغاربة. وهذا ما تعكسه الاحتجاجات الشعبية العارمة منذ بداية تطبيق برنامج التقويم الهيكلي في بداية 1980، وثلاث انتفاضات شعبية في ظرف 10 سنوات (1981، و1984، و1990)، وكذا طيلة التسعينات في جميع المناطق الهامشية بالمغرب من أجل المطالبة بحد أدنى من ضروريات الحياة كالطرق وشبكة الماء والكهرباء والمستوصفات والمدارس، إلخ. كما تأسست جمعية المعطلين حاملي الشهادات التي خاضت معارك كبيرة من أجل الحق في الشغل. وتوسعت التعبئات ضد غلاء الأسعار والدفاع عن الخدمات العمومية، إلخ. وشكل اندلاع حركة 20 فبراير مع بداية سنة 2011 التعبير الساطع عن صرخة مختلف شرائح الشعب الباطنية ضد سياسات التقشف التي تفرضها ضرورة تسديد الديون.
ويمكن أيضا الارتكاز على الحجج التي قدمتها لجنة تقصي الحقيقة بكون الديون العمومية (الداخلية والخارجية) ترهن سيادتنا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وغذائيا وبيئيا لصالح المؤسسات المالية الدولية والدول خاصة الإمبريالية والبنوك الخاصة، وأنها أبرمت في خرق لأبسط الالتزامات الدولية والوطنية على مستوى حقوق الإنسان والقانون. كما يمكن الارتكاز على التجارب الدولية الأخرى في تدقيق الديون والتشطيب عليها. ومن هنا مقترح جمعية أطاك المغرب بتشكيل لجنة أو ائتلاف وطني من أجل تدقيق مواطني الدين العمومي تشارك فيه جميع منظمات النضال عمالية وشعبية من نقابات، وأحزاب يسارية، ومنظمات حقوق الانسان، وتنظيمات المعطلين والطلبة والنساء والشباب، والأساتذة الجامعيون، والخبراء الاقتصاديون والقانونيون، إلخ. وفي انتظار نتائج التدقيق، نطالب تعليق تسديد مبالغ خدمة الدين وتجميد الفوائد، كما نطالب بإلغاء الديون غير الشرعية وغير المشروعة والكريهة وغير المحتملة التي سيحددها تدقيق الديون[23]. فلا بد من تظافر جهود جميع منظمات النضال بالمغرب لتعبئة شرائح الشعب المغربي على مسألة الديون والسير نحو فرض التشطيب عليها.
10 يوليوز 2015
أزيكي عمر
كاتب عام جمعية أطاك المغرب-عضو الشبكة الدولية للجنة من أجل إلغاء ديون العالم الثالث.
[1] – حسب دراسة قام معهد ألماني (Hans Böckler) ونشرها باحثان يونانيان في مارس 2015 وتناقلتها المواقع الالكترونية. [2] – في فاتح يناير 2015، بلغ الحد الأدنى الشهري للأجر في اليونان 684 يورو مقابل 1473 يورو في ألمانيا، و1457 يورو بفرنسا، و1502 يورو في هولندا وبلجيكا. ويعكس الحد الأدنى للأجور هذا التفاوت بين البلدان الغنية في شمال أوروبا التي تهيمن على بلدان جنوب أوروبا (إسبانيا 757 يورو في الشهر، والبرتغال 590 يورو) وخاصة البلدان الشرقية (بلغاريا 184 يورو، وهنغاريا 333 يورو، ورومانيا 218 يورو، وتشيكوسلوفاكيا 332 يورو). http://www.journaldunet.com/management/remuneration/smic-2013-en-europe.shtml [3] – مجموعة اليورو (Eurogroupe) هي اجتماع (مرة كل شهر) وزراء مالية الدول الأعضاء في منطقة اليورو. رغم أنه ليس مؤسسة رسمية للاتحاد الأوروبي، لكنه أصبح إحدى هيئاته الرئيسية التي تقرر في السياسة الاقتصادية والنقدية. http://www.touteleurope.eu/l-union-europeenne/eurogroupe.html [4] – جريدة لوموند. http://www.lemonde.fr/economie/article/2015/06/29/depuis-2010-260-milliards-d-euros-ont-ete-pretes-a-la-grece_4663599_3234.html [5] – تتوزع هذه الديون على صندوق الاستقرار المالي الأوروبي بمبلغ 142 مليار يورو، و53 مليار يورو للدول الأوروبية مباشرة، و32 مليار يورو لصندوق النقد الدولي، و30 مليار يورو لدائنين خواص، و27 مليار يورو للبنك المركزي الأوروبي، و38 مليار يورو لدائنين آخرين.http://www.lemonde.fr/les-decodeurs/article/2015/07/06/le-referendum-en-grece-et-ses-consequences-en-5-questions_4672766_4355770.html [6] – ميشيل هوسون. الأسباب الحقيقية للمديونية اليونانية. http://www.audit-citoyen.org/?p=6364 [7] – كان الدائنون يطالبون اليونان مثلا بتقليص ميزانية الموظفين في الوقت لا يمثلون فيه سوى 8% من مجموع مناصب الشغل في سنة 2011 مقابل 11% في ألمانيا 23% في فرنسا. ومثلت النفقات العمومية في اليونان 42% من الناتج الداخلي الخام سنة 2011 مقابل 45% في ألمانيا و52% في فرنسا. [8] – كان اليونان (ولا يتجاوز عدد سكانه 11 مليون نسمة) يخصص نسبة 4% من الناتج الداخلي الخام للنفقات العسكرية، وأصبح في 2011 رابع مستورد عالمي للأسلحة بعد الصين (1,3 مليار نسمة) التي تحتل المرتبة الثالثة وقبل الهند (1,1 مليار نسمة) التي تحتل المرتبة الخامسة. ويمكن أن نضيف أيضا نفقات الألعاب الأولمبية التي فاقت 11 مليار دولار (20 مليار يورو حسب مصادر أخرى) والتي أتت أساسا من القروض. [9] – عرض مختصر لعناصر تقرير لجنة تقصي الحقيقة في الدين العمومي اليوناني يومي 17 و 18 يونيو 2015. https://attacmaroc.org/?p=3274 [10] – عرض مختصر لعناصر تقرير لجنة تقصي الحقيقة في الدين العمومي اليوناني. [11] – لابد من الإشارة إلى أن الوزير الأول، جيورج باباندريو (Georges Papandréou) من الحزب الاشتراكي (PASOK) الليبرالي الذي سهر على تنفيذ إملاءات الدائنين، قرر إخضاع هذه الاتفاق للاستفتاء الشعبي، لكن سرعان ما تراجع عن هذا القرار أربعة أيام بعد الإعلان عنه. [12] – مداخلة إريك توسان لتقديم التقرير التمهيدي للجنة تقصي الحقيقة في الدين العمومي اليوناني أمام البرلمان اليوناني يوم 17 يونيو 2015.https://attacmaroc.org/?p=3295 [13] – “الأشكال الحديثة للإضرابات في أوروبا الغربية، هيمنة الإضراب السياسي الجماهيري”. http://www.savoir-agir.org/IMG/pdf/SA27-GregorGall.pdf [14] -جمعية أطاك المغرب تتحمل مسؤولية السكرتارية الدولية لهذه الشبكة بشكل مشترك مع لجنة إلغاء ديون العالم الثالث ببلجيكا. [15] – تعبير “القوس اليساري” تداوله الصحافة الليبرالية كثيرا ويرمز إلى السقوط السريع المحتمل لحكومة سيريزا من جراء المأزق الذي سيؤدي إليها برنامجها. [16] – “لسنا أمام وضعية يجتمع فيها الدائنون لمنح قروض لسلطات عمومية تفعل بها ما تراه مناسبا. إننا أمام وضعية منحت فيها القروض بشروط خاصة جدا، وحيث يتم فيها تعليق دفع المبالغ المالية إذا لم تطبق الإجراءات المفروضة من قبل الدائنين”. مداخلة إريك توسان لتقديم التقرير التمهيدي للجنة تقصي الحقيقة في الدين العمومي اليوناني أمام البرلمان اليوناني يوم 17 يونيو. [17] – أنظر تعريفات الديون غير المشروعة، وغير الشرعية، والكريهة، وغير المحتملة (لا تطاق) الذي تبنته لجنة تقصي الحقيقة على موقع أطاك المغرب. https://attacmaroc.org/?p=3303 [18] – عرض مختصر لعناصر تقرير لجنة تقصي الحقيقة في الدين العمومي اليوناني. [19] . تصريح إريك توسان حول النصر التاريخي لـ لا اليوناني. http://cadtm.org/Declaration-d-eric-Toussaint-sur [20] – تجارب تعليق أحادي الجانب لتسديد الديون خلال القرنين الأخيرين. https://attacmaroc.org/?p=3317 [21] – أنظر الميثاق السياسي لشبكة اللجنة من أجل إلغاء ديون العالم الثالث على موقع أطاك المغرب. https://attacmaroc.org/?p=1946 . [22] – الميثاق السياسي لشبكة اللجنة من أجل إلغاء ديون العالم الثالث. [23] – أطاك المغرب: “نداء من أجل تدقيق الديون العمومية المغربية: لا تنمية دون إلغاء المديونية”. https://attacmaroc.org/?p=1890