خط الوقاية والسيولة الجديد
تشديد أغلال التبعية
لم تنته مدة السنتين الخاصة بخط السيولة والوقاية الذي فتحه المغرب لدى صندوق النقد الدولي سنة 2012، حتى سارع إلى تقديم طلب للحصول على خط ثان لنفس القرض، وهذا بعد مدة ليست بالطويلة من إصدار المغرب سندات بقيمة مليار أورو طرحها في السوق الدولية، وهي بمثابة دين على الدولة المغربية.
تسارع الحكومة إلى توثيق يدي البلد بالمزيد من أغلال التبعية لمؤسسات الرأسمال العالمي، مخضعة المغرب لجملة إجراءات تقشفية قصد ضبط عجز الميزانية في مستويات تسمح للمغرب بأداء التزاماته مع هذه المؤسسات. وهو ما صرح به وزير المالية المغربي محمد بوسعيد في 8 ابريل على هامش اجتماع وزراء المالية العرب في العاصمة التونسية، حيث أكد أن احتياجات المغرب للاقتراض الخارجي هذا العام ستصل إلى 2.5 مليار يورو (3.44 مليار دولار) لسد العجز الذي يقدر بنسبة 4.9 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي.
نفاق حكومي
تذهب تصريحات المسؤولين المغاربة إلى أن إمكانية حصول المغرب على خط ثان للسيولة والوقاية دليل على سلامة اقتصاده وثقة الأسواق فيه، فقد أكد والي بنك المغرب، عبد اللطيف الجواهري، أن أهلية المغرب للحصول على خط جديد للوقاية والسيولة لدى صندوق النقد الدولي، يعد دليلا على سلامة التوازنات الماكرو- اقتصادية للبلاد.
إلا أن العكس هو الصحيح، فبسبب التشكيك في قدرة الاقتصاد المغربي من قبل المؤسسات الدولية والفاعلين الاقتصاديين الدوليين في قدرة هذا الاقتصاد على الأداء ولأنهم يرغبون في ضمانات مالية قوية، فإنهم يشترطون على المغرب الحصول على هذا الخط للتمكن من مواجهة أي أزمة قد تحد من قدرته على أداء الديون أو قدرته على تمويل المشتريات.. فإذا كانت هذه المؤسسات تشيد بالأداء الاقتصادي المغربي فلماذا تفرض عليه طلب خط ائتماني؟ على كل حال ليس تناول الدواء دليلا على صحة الجسم، فما بالك إن كان مسبب الداء هو نفسه الدواء.
وما يسمى عند المؤسسات المالية الدولية سلامة الاقتصاد هو قدرة هذا الأخير على الوفاء بالالتزامات المالية، خصوصا المتعلقة منها بالمديونية، وليس دينامية هذا الاقتصاد وانعكاساته الاجتماعية على الكادحين. فعكس تصريحات الجواهري، بلغ العجز التجاري الخاص بالسلع 84.9 مليار درهم نهاية ماي 2014، مقابل 83.2 مليار في نفس الفترة من سنة 2013، كما سجلت مبيعات الفوسفاط انخفاضا بـ % 13.3، وتراجعت تحويلات المغاربة المقيمين بالخارج بنسبة %1.6 والتدفقات الصافية للاستثمارات الأجنبية المباشرة بنسبة %18. وبلغ عجز الميزانية 30.7 مليار في نهاية أبريل 2014 بدل 20.3 مليار في نفس الفترة من سنة 2013. (بلاغ اجتماع مجلس بنك المغرب، 17 يونيو 2014- موقع بنك المغرب على النت).
وصاية خارجية
جاء الإيعاز بطلب الخط الثاني من طرف مديرة صندوق النقد الدولي خلال زيارتها الأخيرة للمغرب، حين صرحت بأن “المغرب يمكنه طلب خط سيولة مالية جديد بعد الذي تم وضعه رهن إشارته طيلة سنة خاصة وأنه قام بإصلاحات”. هذا بعد أن كان رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران، قد قال في يناير الماضي، إن حكومته قد تطلب على “سبيل الاحتياط” من صندوق النقد الدولي تمديد خط ائتماني بقيمة 6.2 مليار دولار كان المغرب قد فتحه سنة 2012.
وصاية أكدها الجواهري والي بنك المغرب في مؤتمر صحافي عقده عقب الاجتماع الفصلي لمجلس البنك المركزي المغربي حين صرح أنه يعكف حاليا، “بمساعدة بعثة من الصندوق، على وضع اللمسات الأخيرة على هذا الخط”.
ويظهر هذا “القرض” بجلاء مدى تحكم المؤسسات المالية الدولية في القرار الاقتصادي المغربي وتوجيهه نحو أهدافها، ففي إطار اتفاق خط الوقاية والسيولة يخضع المغرب إلى مراجعات نصف سنوية من طرف خبراء صندوق النقد الدولي، كان آخرها المراجعة الثالثة التي تمت في ديسمبر 2012، حين زار فريق من خبراء صندوق النقد الدولي بقيادة جون- فرانسوا دوفان في الفترة 5- 19 ديسمبر 2013 المغرب، وذلك لعقد مناقشات مع السلطات في إطار مشاورات المادة الرابعة لعام 2013، بالإضافة المراجعة الثالثة للاقتصاد المغربي في ظل الاتفاق الذي يدعمه “خط الوقاية والسيولة”. (إدارة التواصل بصنوق النقد الدولي، بيان صحفي رقم 529- 13- 19 ديسمبر 2013).
وهذه الوصاية ليست مرتبطة بخط الوقاية والسيولة بل تندرج ضمن القانون الداخلي لصندوق النقد الدولي، فالمادة الرابعة من اتفاقية تأسيس الصندوق تنص “على إجراء مناقشة ثنائية مع البلدان الأعضاء تتم في العادة على أساس سنوي. يقوم فريق من خبراء الصندوق بزيارة العضو، وجمع المعلومات الاقتصادية والمالية اللازمة، وإجراء مناقشات مع المسؤولين الرسميين حول التطورات والسياسات الاقتصادية في هذا البلد. وبعد العودة إلى مقر الصندوق، يعد الخبراء تقريرا يشكل أساسا لمناقشات المجلس التنفيذي في هذا الخصوص”. (صندوق النقد الدولي، إدارة التواصل، بيان صحفي رقم 37/ 14- 31 يناير 2014).
مزيدا من القرض.. مزيدا من التقشف
ما يسميه صندوق النقد الدولي- ويكرره الجواهري تكرار الببغاء- سلامة التوازنات الماكرو- اقتصادية قو قدرة الحكومة على سن إجراءات سياسية قاسية فيما يخص ضبط الإنفاق العام وتقليص الدعم لكل ما هو عمومي، وهو ما صرحت به “نعمت شفيق”، نائب مدير عام الصندوق ورئيس المجلس التنفيذي بالنيابة في اجتماع مجلس التنفيذي للصندوق: “ساهم التخفيض الكبير في دعم الطاقة خلال عام 2013، مع زيادة المساعدات الاجتماعية لشرائح السكان الأشد احتياجا، في تقوية حسابات المالية العامة والحد من تقلبات موقف المالية العامة الأساسي”. كما أيد المديرون التنفيذيون الجهود الرامية إلى تقوية الموارد العامة ودعم استمرارية أوضاع المالية العامة والمركز الخارجي على حد سواء. ورحبوا بتخفيض دعم الطاقة في عام 2013 مع زيادة الحماية الاجتماعية لشرائح السكان الأشد احتياجا، وشجعوا السلطات على مواصلة مثل هذه الجهود. (صندوق النقد الدولي، إدارة التواصل، بيان صحفي رقم 37/ 14- 31 يناير 2014).
ودعما لهذا النوع من “السلامة الاقتصادية” دعا هؤلاء الحكومة للاستمرار في نفس النهج الاقتصادي، حيث أقرت نعمت شفيق أن المرحلة المقبلة ستتطلب “الاستمرار في تقوية الموارد المالية إعادة توجيه الإيرادات والإنفاق لزيادة دعم النمو والدمج الشامل، إلى جانب اعتماد قانون الموازنة الأساسي الجديد الذي ينطوي على أفضل الممارسات المتعلقة بانضباط المالية العامة ونطاق تغطيتها والرقابة على النفقات”. وهو نفس ما ذهب إليه المدراء التنفيذيون للصندوق؛ ” ضرورة إعادة توجيه الإيرادات والإنفاق لتحسين دعم النمو والدمج الشامل في عام 2014 وما بعده، من خلال إجراء الإصلاحات التي تهدف إلى توسيع القاعدة الضريبية، ومراجعة الحوافز والإعفاءات الضريبية، وإصلاح نظام ضريبة القيمة المضافة، وتخفيض فاتورة القطاع العام، وإصلاح نظام التقاعد”. (صندوق النقد الدولي، إدارة التواصل، بيان صحفي رقم 37/ 14- 31 يناير 2014).
ما هو خط الوقاية والسيولة
حسب صندوق النقد الدولي “أبرزت الأزمة المالية العالمية ضرورة توافر شبكة عالمية فعالة للأمان المالي تساعد البلدان على التكيف مع الصدمات المعاكسة”. وكان “خط الوقاية والسيولة” إحدى أدوات هذه الشبكة الذي يتوخى المرونة في تلبية احتياجات السيولة لدى البلدان الأعضاء”. (موقع صندوق النقد الدولي الالكتروني، صحيفة ووقائع).
“يقدم “خط الوقاية والسيولة” التمويل لتلبية احتياجات ميزان المدفوعات الفعلية أو المحتملة لدى البلدان ذات السياسات السليمة” (صحيفة ووقائع). فما يهم الصندوق في إطار هذا الخط هو قدرة البلد المعني على الوفاء بالتزاماته مع الخارج وهذا لن يتم إلا على حساب الداخل (ضبط عجز الميزانية، ضبط الإنفاق بإلغاء الدعم العمومي..).
يزكي هذا التعريف ما ينعت به الصندوق على أنه إطفائي حرائق، لكنه نوع مميز من الإطفائيين الذين يحاولون إطفاء الحريق باستعمال مواد قابلة للاشتعال. فالإجراءات الاقتصادية التي يقرها الصندوق على الدول التي تتمتع بالحق في هذا الخط من شأنها تعميق الأزمة وليس القضاء عليها. فحسب الصندوق يجمع الخط بين عملية “التأهل” أي معايير الحصول على الخط و”الشرطية” اللاحقة المركزة التي تستهدف معالجة ما ترصده عملية التأهل من مواطن قصور متوسطة باقية”. (صحيفة ووقائع).
وحتى التقييم الذي يقوم به خبراء الصندوق للبلد المعني يركز على معايير مالية محضة فهم غير معنيين بآثار هذه السياسات على المستوى المعيشي للسكان ولا بالأوضاع المعيشية، ويتم تقييم “مدى أهلية البلد العضو لاستخدام “خط الوقاية والسيولة” في الخمسة مجالات العامة التالية: (1) مركزه الخارجي وقدرته على النفاذ إلى الأسواق؛ (2) سياسة المالية العامة؛ (3) السياسة النقدية؛ (4) سلامة القطاع المالي والرقابة عليه؛ (5) كفاية البيانات المتاحة”. (صحيفة ووقائع).
يركز الصندوق على محدودية التكلفة التي تميز هذا الخط، إشارة منه إلى انخفاض الفوائد الخاصة بهذا القرض، لكنه لا يشير البتة إلى تكلفته الاجتماعية. فالصندوق يستطيع من خلال الوعد بضمان تدفق السيولة فرض إجراءات هيكلية على اقتصاد البلد المعني بالخط دون أن يقدم فلسا واحدا لميزانية هذا البلد وبالتالي، فالقرض المقبل سيرافقه إجراءات أكثر قساوة ستمس الحقل الاجتماعي.. هذا ولا يكشف المغرب ولا خبراء الصندوق أثناء مراجعاتهم نصف السنوية عن نسبة الفوائد هذه التي يؤديها المغرب.
بموجب هذا الخط الائتماني، تلتزم الحكومة المغربية ببرنامج إصلاحات، تستهدف بالأساس دعم احتياطي البلاد من العملة الصعبة والتحكم في عجز الميزانية العامة للدولة إلى 3.5% بنهاية 2013، ثم إلى 3% بحلول العام 2016.
ولا يمكن التحكم في عجز الميزانية إلا على حساب الكادحين وعيشهم اليومي وهو ما أكدته كريستين لاغارد، مدير عام صندوق النقد الدولي في ختام زيارتها إلى المغرب، التي أمرت المسؤولين الحكوميين عقب زيارتها الأخيرة للمغرب “باتخاذ مزيد من التدابير للمضي قدما في إجراء إصلاحات المالية العامة الصعبة وتنفيذ جدول أعمال الإصلاحات الهيكلية يوفر الدعم اللازم للقدرة التنافسية ويعزز مناخ الأعمال ويزيد من فرص العمل. ويظل من الضروري مواصلة الجهود لبناء توافق الآراء حول أهم الإصلاحات مثل الدعم أو معاشات التقاعد”.(إدارة التواصل في صندوق النقد الدولي، بيان صحفي رقم 215- 14- 9 مايو 2014).
إجراءات سبق أن أشار إليها المدراء التنفيذيون للصندوق بعد المراجعة الثالثة التي تمت في ديسمبر 2013، وهي: “الرقابة على النفقات”، “زيادة مرونة سعر الصرف”، “سوق العمل لجذب الاستثمار الأجنبي المباشر” (أي المزيد من الضغط على أجور العمال وظروف استغلالهم)، “توسيع القاعدة الضريبية”، “إصلاح نظام ضريبة القيمة المضافة”، “تخفيض فاتورة القطاع العام”، “إصلاح نظام التقاعد”.
قروض لتعميق الأزمة.. وليس لتجاوزها
ليس هذا بالجديد فيما يخص سياسة صندوق النقد الدولي، فمنح الصندوق للقروض يكون مصاحبا بما يسمى “المشروطيات”، أي أن الصندوق يخضع البلد الذي تلقى القرض لجملة إجراءات وإصلاحات هيكلية وصدمية، ولم تكن قد اتفاقات القروض مرتبطة بأي برنامج للاستثمار، “فالقروض تستهدف دعم تغييرات سياسية؛ “تراقب مؤسسات بريتون وودز بدقة هذه الأخيرة (أي القروض) ويستند تقييمها إلى “الأداء السياسي”. وبعبارة أخرى فبعد أن يوقع اتفاق القرض، يمكن وقف المدفوعات إذا لم تتوافق الحكومة، مع خطر وضع البلد في القائمة السوداء من جانب ما يسمى “لجنة التنسيق” بين المانحين الثنائيين ومتعددي الأطرف”. (“عولمة الفقر”، ميشيل تشودوفسكي)
لا تشجع طبيعة اتفاقات القروض الاقتصاد الحقيقي، لأن أيا من الأموال لا يوجه إلى الاستثمار، “غير أنها خدمت هدفا آخر: فقروض التكييف حولت الموارد بعيدا عن الاقتصاد المحلي، وشجعت البلدان على الاستمرار في استيراد كميات كبيرة من السلع الاستهلاكية، بما فيها الأغذية الأساسية من البلدان الغنية… وكانت نتيجة هذه العملية ركود الاقتصاد المحلي، وتوسيع أزمة ميزان المدفوعات، ونمو عبء الدين”. (“عولمة الفقر”، ميشيل تشودوفسكي).
إن صندوق النقد الدولي يريد أن يداوي المريض بالتي هي الداء، وهي لا تصدق إلى في عالم الشعر وليس في عالم الواقع.
لا.. لن نؤدي تكلفة أزمتكم
كل هذه الإجراءات تلخص الشعار الذي ردت به المؤسسات المالية الدولية على الأزمة الاقتصادية العالمية التي انطلقت منذ 2008 أي “تحميل كلفة الأزمة للكادحين”.
إن عجز ميزانية المغرب وإملاءات التحكم فيه الذي تفرض من خلاله هذه المؤسسات على الكادحين مزيدا من التقشف والتضحيات، يتمل مسؤوليته الحكومات المتعاقبة على المغرب منذ الاستقلال، وخصوصا منذ تطبيق برنامج التقويم الهيكلي منتصف الثمانينات من القرن العشرين، الذي فرض خوصصة القطاع العام إضافة إلى اتفاقات التبادل الحر (اللامتكافئ) وكلها إجراءات كانت وراء ترحيل الثروات التي يخلقها العمال والمنتجون الصغار إلى بلدان الشمال وحرم ميزانية الدولة من مواردها (الضرائب على رأس المال، والمداخيل الجبائية والجمارك..).
رغم أكثر من أربعين سنة من التضحيات لا زال المغرب بلدا دائنا غير قادر على الخروج من الدوامة الجهنمية للمديونية؛ “يخبرنا أبطال العولمة النيوليبرالية أن على البلدان النامية تسديد ديونها الخارجية إن كانت راغبة بالاستفادة من التدفق الثابت للأموال. في الواقع، كان التدفق يجري منذ أزمة الدين في العام 1982 من المحيط إلى المركز وليس العكس، كما يريد قادة المؤسسات المالية الدولية إقناعنا”. (إريك توسان، المال ضد الشعوب، البورصة أو الحياة، ص 395).
ومنذ ذلك الحين “زاد عبء دين البلدان النامية بثبات منذ أوائل الثمانينات بالرغم من مختلف مشاريع إعادة الجدولة وإعادة الهيكلة وتحويل الديون التي قدمها الدائنون. والواقع أن هذه الإجراءات- مصحوبة بالإقراض ذي الأساس السياسي من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي- قد أدت إلى زيادة الدين القائم للبلدان النامية مع ضمان السداد الناجز لمدفوعات الفوائد”. (“عولمة الفقر”، ميشيل تشودوفسكي).
صار ملحا- كما أصر إريك توسان- تبني وجهة النظر المعاكسة للخطاب الرسمي، يتوجب إلغاء الدين العام الخارجي لبلدان العالم الثالث. خارج هذا الإجراء سيبقى المغرب عالقا في شبكة الدين الخارجي إلى أجل غير مسمى، وسيظل الكادحون هم من يتحمل تكلفة هذه الدين وليس المتسببين الحقيقيين في هذه الكارثة التاريخية.
علي أموزاي