“الرأسماليّة المتطرّفة” للإخوان المسلمين
إن عقيدة الإخوان المسلمين الاقتصادية القائلة بالاقتصاد الحرّ غير المقيَّد بتدخل الدولة هي أكثر انسجاماً مع المذهب النيوليبرالي من واقع الرأسمالية السائدة في ظل مبارك. ويعبِّر عن تلك العقيدة خير تعبير خيرت الشاطر [1]، الرأسمالي الكبير والرجل الثاني في الإخوان بعد المرشد وممثل أكثر أجنحة الجماعة محافظةً، وكذلك حسن مالك، العظيم الثروة والعضو البارز في الإخوان، الذي بدأ حياته في عالم الأعمال شريكاً للشاطر وبات اليوم يدير شبكة من الشركات في مجالات النسيج والأثاث والتجارة يعمل بها أكثر من 400 مستخدم. والصورة التي رسمتها لمالك مجلة بيزنيس ويك كان يمكن أن تحمل عنوان الأخلاق الإخوانية وروح الرأسمالية من فرط تماهيها مع مؤلَف ماكس فيبر الكلاسيكي. فآل مالك، حسب المجلة الأمريكية، «يُشكِّلون جزءاً من جيل من المحافظين المتدينين الصاعدين في العالم الإسلامي، ممن يُقوِّي إخلاصهم لله من عزمهم على النجاح في الأعمال وفي السياسة. ومثلما يقول مالك: “ليس لدي شيء آخر في حياتي غير عملي وأسرتي”. ويطرح هؤلاء الإسلاميون تحدياً هائلاً للحكم العلماني في بلدان مثل مصر – لا بسبب طابعهم المحافظ فحسب، وإنما بسبب أخلاق العمل لديهم، وتركيزهم العازم على عملهم، وبُعدهم الظاهر عن اللهو والخطيئة. إنهم أهلٌ للكسب في أي سباق. […] “جوهر الرؤية الاقتصادية للإخوان، إذا صنفناهم بطريقة كلاسيكية، هو الرأسمالية القصوى”، على حد قول سامح البرقي، العضو السابق في الجماعة […] [2] .»
وتتجلى هذه “الرأسمالية القصوى” في اختيار الخبراء الاقتصاديين المشاركين في الجمعية المكلفة بكتابة مشروع الدستور المصري الجديد، وهي جمعية يهيمن عليها إلى حد كبير الإخوان المسلمون والسلفيون وتقاطعها لهذا السبب المعارضة الليبرالية واليسارية. «طارق الدسوقي رجل أعمال وعضو حالياً في البرلمان عن حزب النور [السلفي]. وهو يرأس اللجنة الاقتصادية في البرلمان المصري الجديد، وتشمل مهامه تسوية المنازعات مع المستثمرين السعوديين في مصر. حسين حامد حسان، 80 عاماً، خبير في المالية الإسلامية، سبق أن شغل مناصب تنفيذية في البنك الدولي الإسلامي، وبنك دبي الإسلامي، وبنك الشارقة الوطني الإسلامي، والاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية. معبد علي الجارحي يرأس الجمعية الدولية للاقتصاد الإسلامي. [يشغل أيضاً وظائف عليا في مصرف الإمارات الإسلامي وبورصة دبي.] إبراهيم العربي رجل أعمال قريب من الإخوان المسلمين وعضو في الغرفة التجارية للقاهرة. حسين القزاز مدير شركة استشارية للأعمال وصديق لخيرت الشاطر [3] .»
وقد طرح العضو السابق في الجماعة الذي تحاورت معه بيزنيس وييك السؤال الوجيه: ما هو موضع شك ليس هو انتساب الإخوان للرأسمالية النيوليبرالية لحقبة مبارك، وإنما قدرتهم على القطع مع أسوأ خصائصها. «ما سوف نراه هو ما إذا كانت رأسمالية المحاسيب التي اتسم بها نظام مبارك ستتغير في ظل قادة الإخوان المؤيدين لقطاع الأعمال مثل مالك والشاطر. وبالرغم من أن الإخوان عملوا تقليدياً على تحسين ظروف الفقراء، “سوف يعاني العمال والفلاحون بسبب هذه الطبقة الجديدة من رجال الأعمال”، على حد قول البرقي. “وإحدى المشاكل الكبرى مع الإخوان المسلمين الآن – وهي مشكلة مشتركة بينهم وبين الحزب السياسي القديم لمبارك – هي زواج السلطة ورأس المال” [4].»
هذا الزواج بين السلطة ورأس المال يلغي العقبة الرئيسية أمام تعاون الرأسمالية المصرية مع الإخوان المتمثّلة بالمضايقات القمعية التي كانت الجماعة تتعرض لها في ظل مبارك. ويسعى الإخوان المسلمون اليوم إلى تقليد التجربة التركية عن طريق إنشاء جمعية لرجال الأعمال تُعنى بوجه خاص بالمنشآت الصغيرة والمتوسطة، وهي الجمعية المصرية لتنمية الأعمال (ابدأ EBDA [5]) . إلا أن الإخوان ومحمد مرسي، وعلى غرار حزب العدالة والتنمية التركي وحكومة رجب أردوغان، يطرحون أنفسهم كممثلين للمصالح المشتركة للرأسمالية المصرية بمختلف أحجامها، بما في ذلك المتعاونون مع النظام السابق الذين يشكلون، بطبائع الأشياء، جزءاً هاماً من هذه الرأسمالية، خصوصاً في قمتها.
ويمكن أن نرى مثالاً جيداً للتوفيقية الرأسمالية الإخوانية في تشكيل الوفد المكوَّن من ثمانين رجل أعمال الذي رافق مرسي في رحلته إلى الصين في أغسطس/آب 2012. وإذ يود الرئيس الجديد أن يضطلع بدور الوكيل المتجول للرأسمالية المصرية على طريقة رؤساء الدول الغربيين، ودُعِيَ عدة أرباب شركات من المتعاونين مع النظام السابق إلى المشاركة في الوفد. وأحد هؤلاء هو محمد فريد خميس، صاحب شركة النساجون الشرقيون الذي يفتخر بكونه أكبر مصنِّع في العالم للسجاد والموكيت الميكانيكي. وكان خميس عضواً في المكتب السياسي للحزب الوطني الديمقراطي، حزب السلطة في زمن مبارك، وعضواً في البرلمان بهذه الصفة. وضم الوفد أيضاً عضواً آخر في المكتب السياسي للحزب الحاكم السابق معروف بأنه كان قريباً من جمال مبارك: شريف الجبلي، عضو مجلس إدارة اتحاد الصناعات المصرية وصاحب شركة بولى سيرف المتخصصة في الأسمدة الكيميائية [6] .
ويضع مرسي نفسه في نفس موقع أردوغان في موضع تلاقي فصائل متنوعة من رأسمالية بلاده وفي استمرارية مع المسار العام لهذه الرأسمالية. بيد أن الاختلاف الرئيسي في هذا الصدد بين الإخوان المسلمين وحزب العدالة والتنمية التركي – ومن ثُم بين مرسي وأردوغان – لا يكمن في الوزن النسبي للبرجوازية الصغيرة والشرائح الوسطى في كلٍ من المنظمتين بقدر ما يكمن في الطبيعة ذاتها للرأسمالية التي يمثلها كلٌ منهما: رأسمالية بلد “ناشئ” ذات غلبة صناعية وتصديرية في الحالة التركية، ودولة ريعية ورأسمالية تغلب فيها التجارة والمضاربة، وتحمل آثاراً عميقة لعقود من المحسوبية في الحالة المصرية.
كان الهدف من رحلة الصين الترويج للصادرات المصرية بغية الحد من العجز التجاري المصري الذي يربو على 7 مليارات دولار في التبادلات بين البلدين. وسعى الوفد المصري أيضاً إلى إقناع القادة الصينيين بالاستثمار في مصر، دون نجاح كبير في هذا الصدد. بيد أن الاستمرارية الجوهرية بين مرسي ومبارك تجلت في الاعتماد الصريح على الرساميل الآتية من مجلس التعاون الخليجي – مع اختلاف تمثَّل في حلول قطر محل المملكة السعودية بوصفها المصدر الرئيسي لتمويل النظام الجديد، وهو أمر طبيعي في ضوء العلاقات بين الإخوان المسلمين والإمارة [7]. وقد خصت قطر مصر بقرض قيمته ملياري دولار وتعهدت باستثمار 18 مليار دولار على مدى خمس سنوات في مشاريع بتروكيماوية وصناعية، وكذلك في السياحة والعقارات، فضلاً عن شراء بنوك مصرية. ومن جهة أخرى، طلبت حكومة مرسي قرضاً قدره 4.8 مليار دولار من صندوق النقد الدولي، مشيرة إلى استعدادها الكامل للامتثال لشروط الصندوق على صعيد التقشف في الميزانية وغيره من الإصلاحات النيوليبرالية.
إعادة النظر في الحريات النقابية
ونجد فكرة أولية عن هذه الشروط في مذكرة عن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أعدها صندوق النقد الدولي لمؤتمر قمة مجموعة الثمانية في مايو/أيار 2011: «يدخل إلى سوق العمل المصرية كل عام حوالي 000 700 شخص. وسوف يقتضي استيعابهم والحد من عدد العاطلين عن العمل حالياً اقتصاداً أكثر نبضاً بالحياة. وتحقيق ذلك يتطلب إجراءات جريئة، الكثير منها سيتعين تنفيذه من قِبَل الحكومة التي ستفرزها الانتخابات العامة في وقت لاحق من هذا العام. والتحديات الرئيسية التي ينبغي للإصلاح النهوض بها تشمل تشديد التنافس بحيث يكون الدخول إلى الأسواق متاحاً أكثر أمام المستثمرين المحليين والأجانب؛ وخلق مناخ أعمال يجذب الاستثمار الخاص ويستبقيه ويدعم المنشآت الصغيرة؛ وإصلاح أسواق العمل؛ وتخفيض العجز المالي بوسائل من بينها الحد من التبذير عن طريق سياسات الدعم العامة. […] وستبقى الحاجة قائمة إلى استمرار التمويل الخارجي لعدة سنوات مقبلة، بما في ذلك التمويل من القطاع الخاص [8] .»
ولن يكون من شأن هذه القروض الجديدة سوى مفاقمة العبء الثقيل جداً أصلاً للديْن المصري، حيث تمثِّل خدمة الدين حالياً ربع نفقات ميزانية الدولة، وهي النفقات التي تزيد بنسبة 35% عن الإيرادات. وخيار المزيد من الاستدانة ضمن المنطق النيوليبرالي يعني أن الحكومة ستكون مضطرة بالضرورة إلى الاقتطاع من رواتب الموظفين الحكوميين ومن الدعم والمعاشات والإعانات التي تذهب لأشد المعوزين. وقد سبق لمرسي أن وعد وفداً من رجال الأعمال جاء إلى مصر في سبتمبر/أيلول 2012 في زيارة نظمتها غرفة التجارة الأمريكية بأنه لن يتردد في إدخال إصلاحات بنيوية صارمة لكي ينهض باقتصاد البلد من جديد [9]. هذه التوجهات الاقتصادية تقترن حتمياً بالاستعداد لقمع النضالات الاجتماعية والعمالية، ذلك الاستعداد الذي تلوح أفقه في جهود الحكومة الجديدة الرامية إلى إلغاء الحريات النقابية التي تم انتزاعها بفضل الانتفاضة، بينما تتكاثر حالات تسريح النقابين.
والحقيقة أن مرسي وحكومته، ومن ورائهما الإخوان المسلمون، يقودون مصر إلى كارثة اقتصادية واجتماعية. فالوصفات النيوليبرالية المطبَّقة في المناخ الاجتماعي-الاقتصادي الراهن في مصر قد أثبتت منذ زمن طويل وإلى حد بعيد عجزها عن إخراج البلاد من الحلقة المفرغة للتخلّف والتبعية، بل على العكس، أغرقتها أكثر في تلك الحلقة المفرغة. هذا ومن شأن عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي العميق الناجم عن الانتفاضة أن يجعل أفق النمو المدفوع بالاستثمارات الخاصة أقل احتمالاً بعد. ويحتاج المرء إلى جرعة عالية من الإيمان ليصدّق أن قطر سوف تعوِّض شح الاستثمارات العامة في مصر.
وفي زمن مبارك، كان الملاذ المتبقي للفقراء يتمثّل في الصدقة ممزوجةً بـ”أفيون الشعب”. فعلى مدى عقود، وعدهم الإخوان المسلمون بأن «الإسلام هو الحل»، حيث يتخفى وراء هذا الشعار الأجوف عجزهم عن صياغة برنامج اقتصادي مختلف جوهرياً عن ذلك الذي يطبقه الحُكم القائم. وها قد دقت ساعة الحقيقة. فمثلما أبرز خالد حروب، «في الحقبة القادمة سوف تتعرّض هاتان المسألتان، أو الآليتان: شعار “الإسلام هو الحل”، والنطق باسم الدين وما تمثلانه من حمولة أيديولوجية، لاختبار علني وشامل في مخبر الوعي الشعبي. ربما يأخذ هذا الاختبار ردحاً من الزمن، وقد يلتهم عمر جيل بأكمله، لكن يبدو أنّه لم يعد ثمة مناص من عبور هذه المرحلة التاريخية من عمر الشعوب العربية كي يتحوّل وعيها تدريجاً من الهوس المبالغ فيه بالهوية إلى وعي الواقع سياسياً واجتماعياً واقتصادياً. أو بلغة أخرى أن يتحوّل وعي الشعوب والراي العام من طوبى تعليق الآمال على شعارات أيديولوجية حالمة إلى مواجهة الواقع ومحاكمة الأحزاب والحركات بناءً على ما تقدّمه من برامج فعليّة وحقيقية على الأرض [10]»
هاهم تجار “أفيون الشعب” قد وصلوا إلى السلطة. ومن شأن ذلك حتماً أن يُضعف المفعول المنوِّم لوعودهم، خصوصاً حينما لا يتوفَّر لهم – بخلاف زملائهم الإيرانيين – ريعٌ نفطي كبير يتيح لهم شراء رضا قطاع عريض من السكان أو رضوخهم. وكان مكسيم رودنسون قد أحسن التعبير عن المسألة قبل أكثر من ربع قرن. «لا أعرف إلى متى ستستمر الحركة الأصولية، فقد يصل ذلك إلى ثلاثة أو حتى خمسة عقود من الآن. لكنها في جوهرها حركة عابرة. وهي ستبقى، طالما كانت خارج الحكم، نموذجاً مثالياً تغذيه الإحباطات والمظالم الاجتماعية الدافعة إلى التطرف. أما نبذ الحكم الديني فلن يحصل الا بعد تجربة طويلة من المعاناة في ظله (تذكر كم استغرقنا ذلك في أوروبا!). باختصار: الأصولية الإسلامية ستواصل سيطرتها على المرحلة زمناً طويلاً. عندما يفشل نظام أصولي بشكل لا يقبل الشك ويقود الى طغيان واضح ومجتمع تراتبي خانع، أو يعانى نكسات من المنظور الوطني، سيقود ذلك الكثيرين إلى السعي نحو البديل. لكن هذا يتطلب وجود بديل يتمتع بالمصداقية ويثير الهمم ويعبىء الشعب. إنه بالتأكيد ليس بالأمر السهل [11] .»
* أستاذ في معهد الدراسات الشرقية والإفريقية SOAS وجامعة لندن. صدر له مؤخّراً كتاب حول العرب والمحرقة: Les Arabes et la Shoah. La guerre israélo-arabe des récits, Sindbad/Actes Sud, Paris, 2009 المؤلفات السابقةالصادرة: “الشرق المتأجّج”، طبعة جديدة 2004. الصادر عن مؤلفات Page deux، لوزان، 2003، و”صدمة الهمجيات”، 18/10 باريس، آخر مؤلفاته: العرب والمحرقة النازية: حرب المرويات العربية-الإسرائيلية، المركز القومي للترجمة، القاهرة، ودار الساقي، بيروت، 2010. Le Peuple veut : une exploration radicale du soulèvement arabe, Actes Sud/Sindbad, Arles, 2013
[1] كان السيد الشاطر هو المرشّح الأول للإخوان المسلمين في الانتخابات الرئاسية. وبعد رفض ترشيحه استُبدل بالسيد مرسي.
[2] Suzy Hansen, “The Economic Vision of Egypt’s Muslim Brotherhood Millionaires”, Bloomberg Businessweek, 19 April 2012.
[3] Nevine Kamel, “One Sure Thing: A Pro-Market Egyptian Constitution”, Ahram Online, 4 April 2012,http://english.ahram.org.eg/NewsCon….
[4] Hansen, “The Economic Vision.”
[5] انظر Nadine Marrouchi, “Senior Brotherhood Member Launches Egyptian Business Association”, Egypt Independent, 26 March 2012, http://www.egyptindependent.com/nod….
[6] هذه المعلومات مأخوذة من المقال التالي: “Mubarak Era Tycoons Join Egypt President in China”, Al-Ahram Online, 28 Aug. 2012,http://english.ahram.org.eg/NewsCon….
[7] آلان غريش: “الإسلاميّون وتحديات الحكم”، لوموند ديبلوماتيك النشرة العربية، تشرين الثاني/نوفمبر 2012، http://www.mondiploar.com/article41…
[8] Staff of the International Monetary Fund, Economic Transformation in MENA: Delivering on the Promise of Shared Prosperity, Group of Eight Summit, May 27, 2011, Deauville, France (Washington, DC: IMF, 2011).
[9] انظر Aya Batrawy, “Egypt Vows Structural Reforms, Meets US Executives,” Associated Press, 9 Sept. 2012.
[10] خالد حروب، في مديح الثورة: النهر ضد المستنقع (بيروت: دار الساقي، 2012)، ص 119.
[11] جلبير الأشقر، “المستشرق الفرنسي الراحل مكسيم رودنسون وشؤون الإسلام السياسي والأصولية”، الحياة، 5 سبتمبر/أيلول 2004.
هذا المقال مقتبس من كتاب جلبير الأشقر، الشعب يريد: بحث جذري في الانتفاضة العربية، الذي صدر هذا الشهر بالفرنسية. وقد ترجمه إلى العربية عمر الشافعي بالتعاون مع الكاتب وسوف يصدر قريباً عن دار الساقي في بيروت