الشبابمتابعة النضالات

بِمَ يَحْبَلُ الوضع الاقتصادي والاجتماعي في المغرب؟

لو كانت أوضاع تنظيمات النضال كما كانت عليه قبيل سنة 2011، أو على الأقل لو كانت الجبهة الاجتماعية (التي تضم أحزابا يسارية ونقابات وجمعيات) مضطلعة بما يستوجبه الوضع من مهام، لكانت الدينامية النضالية الحالية، التي استثارها الوضع الكارثي لقطاع الصحة العمومية وأوضاع القرى واحتجاجات شباب جين- زد، تطورت لتتخذ أشكالا مشابها بما شهده البلد سنة 2011، والمعروف بـ”حراك العشرين من فبراير”، أو كانت لتتعداه نظرا لعمق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية.

الاستياء الشعبي عميق يمد جذوره، ليس في تحريض هذه المجموعة أو تلك للشعب كي يهب للنضال. أكبر محرض على النضال هو الوضع الاقتصادي ومستتبعاته الاجتماعية. الوضع تَفَجُّرِيٌّ بكل المقايس. يحدث أحيانا أن تتفق التقييمات الواردة من أعلى وتلك القادمة من أسفل. وفي هذا تُخلَق ثغرة يطفو عبرها الدفق الشعبي ويتدفق في مسيلات عديدة، قد تهدِر قوتها إذا لم تتحدث مجرى واحدٍ قوي.

في صيف سنة 2024 صدر تقرير عن المرصد الاقتصادي للمغرب التابع لمجموعة البنك الدولي، يحمل عنوان “تحرير إمكانيات القطاع الخاص لتحفيز النمو وخلق فرص العمل” [1]. رغم محاولة التقرير رسم صورة وردية لما يسميه بعضَ الإنجازات، إلا أنه انتهى إلى نفس خلاصات سابقه الصادر سنة 2017، تحت عنوان “المغرب في أفق 2040، الاستثمار في الرأسمال اللامادي لتسريع الإقلاع الاقتصادي”: فشل القطاع الخاص المغربي في إحداث رجة تنموية تخلق فرص الشغل، انخفاض الإنتاجية… إلخ، وأيضا نفس التوصيات، كما يظهر من عنوان التقرير: القطاع الخاص هو من يجب أن يخلق النمو وفرص العمل، وعلى السياسة العمومية أن تواكبه عبر التحفيز… هكذا في حلقة مفرَغة لن يستطيع سوى النضال الشعبي كسرها وفتح طريق التنمية الفعلية.

“الجزء المملوء من الكأس”

كلما جرى تناول الأوضاع الاجتماعية بالنقد، تقدَّم الإعلام الرسمي بحجة النظر إلى “الجزء المملوء من الكأس”، بدل التركيز على “جزءه الفارغ”. تناول تقرير البنك الدولي ما يسميه “الأداء الخارجي الرائع للاقتصاد المغربي على الرغم من البيئة الدولية الصعبة”. فما هي أوجه هذا الأداء الرائع ومن المستفيد منه؟

أ. الاستثمار الأجنبي

أولى مظاهر هذا الأداء هو “الإعلانات المتزايدة عن الاستثمار الأجنبي المباشر”، لكن نفس التقرير يشير إلى أن هذا الاستثمار الأجنبي لا يخلق نموا ولا فرص شغل: “مع ذلك، فإن الأدبيات التجريبية الواسعة التي تم إنتاجها حول هذا الموضوع تقدم تقييماً أكثر دقة، ولم تتمكن في معظمها من إيجاد علاقة سببية قاطعة بين الاستثمار الأجنبي المباشر والنمو في البلدان النامية”. لذلك فالمستفيد هو هذا الاستثمار الأجنبي نفسه الذي يبتلع الإعانات العمومية ويستفيد من تحفيزات ومغريات ميثاق الاستثمار، ويرحِّل الثروة المنتَجة إلى الخارج دون أن يكون له أثر معزِّز على الاقتصاد المحلي.

بـ. تراجع عجزي الميزانية والحساب الجاري واستقرار الدين العام

ثاني المنجزات هو “تخفيض عجز الميزانية تدريجياً من ذروته البالغة 7.1 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي خلال السنة الأولى من الجائحة إلى 4.3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2023، مما أدى إلى استقرار الدين العام بشكل عام كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي”، و”تراجع عجز الحساب الجاري إلى أدنى مستوى له منذ عام 2007”.

من يتحمل كلفة هذا الإنجاز؟ إنه الشعب. كيف ذلك؟ الإجابة من تقرير البنك الدولي (2024) نفسه: ساهم في تخفيض عجز الميزانية ارتفاع “الإيرادات العامة للحكومة”. فقد ارتفعت هذه الإيرادات (حسب التقرير ذاته) بنسبة %12.7 بالقيمة الحقيقية بين عامي 2019 و2023. وقد ساهمت الإيرادات الضريبية بنسبة %71 من هذه الزيادة في إجمالي الإيرادات. أما المصدر الآخر لارتفاع الإديرادات العامة للحكومة، فهو تنويع من تنويعات الخوصصة والتفويت، وهو ما تُطلق عليه الحكومة “تمويلات مبتكرة”: “كان التقدم في الإيرادات غير الضريبية أكثر وضوحًا من الناحية النسبية (+%50 بين عامي 2019 و2023)، مدفوعًا، من بين أمور أخرى، باللجوء المتزايد إلى عمليات البيع وإعادة التأجير (ما يُعرف بعمليات التمويل المبتكرة)، التي حققت منذ عام 2020 عائدات متراكمة بلغت 6.2 مليار دولار أمريكي للحكومة المركزية. وتنطوي هذه العمليات على نقل الأصول العامة من الميزانية العمومية للحكومة المركزية”. رغم أن هذه “التمويلات المبتكَرة”، والتي هي صيغة من صيغ امتصاص القطاع الخاص للمالية العمومية وشكل آخر من أشكال الخوصصة والتدبير المفوَّض، إلا أنها تَحدُث وراء ظهر الشعب: “لا يتم الكشف عن تفاصيل هذه المعاملات للجمهور” (البنك الدولي- 2024). وتتصف هذه التمويلات المبتكَرة بنفس ما اتصفت به سياسة الخوصصة في عقد تسعينيات القرن العشرين، إذ تضْمنُ تدفقاتٍ مالية كبيرة لكنها ليس دائمة: “بالتالي لا ينبغي اعتبارها مصادر متكررة للإيرادات” [البنك الدول- 2024]، وبالتالي فإنها وإن سوَّت مشكلة عجز الحساب الجاري ظرفيا، إلا أنها تخلق أرضية لعجز أكبر مستقبلا.

أما مصادر تخفيف عجز الحساب الجاري، حسب تقرير البنك الدولي (2024)، فهي “الديون الرسمية طويلة الأجل” وتحويلات العمال المهاجرين. تلعب هذه التحويلات دورا كبيرا في تمويل العجز المالي وفي نفس الوقت تخفيف التوترات الاجتماعية: “التحويلات المالية عنصر متزايد الأهمية في الحساب الجاري، فضلاً عن كونها شرياناً مالياً حيوياً يساعد الأسر المغربية على تجاوز الأوقات العصيبة” (البنك الدولي- 2024). بلغت هذه التحويلات أرقاما قياسية، إذ شكلت، حسب تقرير البنك الدولي 2024، “حوالي %8 من الناتج المحلي الإجمالي خلال السنوات الثلاث الماضية، مقابل %5.2 من الناتج المحلي الإجمالي قبل الجائحة”. وحسب نفس التقرير، “أصبح المغرب رابع عشر أكبر متلقٍ للتحويلات المالية من حيث القيمة المطلقة (باستثناء البلدان ذات الدخل المرتفع)، والحادي عشر بين البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل من حيث حصة التحويلات المالية من الناتج المحلي الإجمالي. وقد تجاوزت الزيادة في التحويلات المالية التي لوحظت في المغرب منذ الجائحة الاتجاهات العالمية (%74 مقابل %18)”.

من هذه المصادر الواردة أعلاه، نخلص إلى أن الذي يموّل ما يعتبره البنك الدولي “الأداء الخارجي الرائع للاقتصاد المغربي”، هو الشعب والطبقة العاملة: عبر العبئ الضريبي والتقشف (“احتواء الإنفاق العام، بما في ذلك الإلغاء التدريجي لدعم غاز البوتان” حسب تقرير البنك الدولي 2024) وتفويت الممتلكات العمومية داخليا والتحويلات المالية للطبقة العاملة خارجيا.

هذا “الأداء الخارجي الرائع للاقتصاد المغربي” حسب وصف البنك الدولي، الذي يشكل الجزء المملوء من الكأس، وهو جزء ضئيل جدا ويسيتفيد منه القطاع الخاص، لا يمكن أن يغطي على الجزء الفارغ من نفس الكأس، وهو الذي يمثل أغلبَه، مع العلم أن القطاع الخاص هو الذي يغترف أكثر من الكأس بينما تُترك قطرات قليلة جدا للشعب تسمى حماية اجتماعية.

نموذج جديد للفيلة البيضاء: كأس العالم

يقدِّم الخطاب الرسمي التنظيم المشترك لكأس العالم من طرف إسبانيا والبرتغال والمغرب كأنه إنجاز اقتصادي ضخم وفتح دبلوماسي هائل. كل الأنظار أصبحت معلَّقة بتلك المحطة، وكأنها حاملة التنمية المؤجّلة. تناول تقرير البنك الدولي نشاط القطاعي الصناعي وربط الانتعاش الحاصل والمتوقع أن يحصل فيه بـ”المشاريع المتعلقة بكأس الأمم الأفريقية القادمة في 2025/2026 وكأس العالم 2030″.

سيتم تخصيص حوالي 25 مليار درهم من الميزانية العامة للدولة بين عامي 2024 و2030، مع توجيه هذه الأموال أساسًا لبناء الملاعب، ومراكز التدريب، وغيرها من المنشآت الرياضية… وهذا ما أثار استياء شعبيا حفزته المقارنة بين الميزانية المخصصة لهذه المحطة الرياضية وبين التقشف الرهيب تجاه قطاعات أولوية مثل التعليم والصحة، وكان هذا وراء الاحتجاجات الأخيرة.

نموذج تنموي جديد “فاشل” بدوره

كانت خلاصة تقرير البنك الدولي لسنة 2017 أن النموذج التنموي القديم وصل حدوده لأنه لا يحفِّز القطاع الخاص ليكون قاطرة النمو الاقتصادي والتنمية الاجتماعية، رغم معدلات الاستثمار العمومي العالية (%32) التي يتفوق فيها المغرب على نظرائه من “البلدان متوسطة الدخل”. تفسير ذلك بالنسبة لتقرير البنك الدولي لسنة 2017 هو انخفاض مشاركة القطاع الخاص في الاستثمار. وها هو تقرير سنة 2024 يعيد نفس الخلاصة: “على الرغم من الأهداف الطموحة التي حددها النموذج الإنمائي الجديد، فقد انخفضت مشاركة القطاع الخاص في إجمالي الاستثمار بشكل أكبر في السنوات الأخيرة”.

حسب التقرير (2024) لا يزال الاستثمار العمومي هو قاطرة النمو في المغرب: “يمكن تفسير أكثر من ثلثي النمو في الناتج المحلي الإجمالي خلال العقدين الماضيين بتراكم رأس المال الثابت، مما يعكس جهداً استثمارياً كبيراً ومستداماً قاده القطاع العام في المقام الأول”. المقصود هنا أن القطاع العمومي هو الذي يقود القطاعَ الخاص، كمن يعلِّم طفلا صغيرا خطوات المشي الأولى، ويكون الاستثمار العمومي هو تلك الضخمة التي تمتص موارد البلد وتغذي بها القطاع الخاص. حين يلاحظ الشعب كيف يجري استعمال المالية العمومية “لزيادة الشحم في كرش المعلوف”، فإنه لن يحتاج إلى من يحرضه على الاحتجاج.

بطالة جماهيرية

كانت البطالة، خصوصا بطالة الشباب، إحدى التحديات التي تناولها تقرير البنك الدولي (2017) واعتبرها أكبر مهدد لـ”التماسك الاجتماعي في البلاد”؛ أي بلُغة البشر: أكبر مفجر للنضالات. لم يتغير الأمر  سنة 2024 كثيرا عما كان عليه الأمر سنة 2017، بل صار أكثر تفاقما.

حسب تقرير 2024، “فقدت المناطق الريفية 198 ألف وظيفة، ولم يعوَّض ذلك سوى جزئياً بخلق 41 ألف وظيفة في المناطق الحضرية”، و”كما أن البطالة آخذة في الارتفاع، حيث بلغت ذروتها عند %13.7 (%17.6 في المراكز الحضرية)، أي بزيادة تزيد عن 4 نقاط مئوية عن مستواها قبل الجائحة”. تُفاقِم البطالة، أيْ انعدامُ الدخل، مشكلَ التضخم والغلاء الذين يقضمان الدخل المتاح، وتجعل الشعب أعزلا في وجه الصدمات الاقتصادية والاجتماعية.

تدهور القدرة الشرائية

منذ الجائحة وحرب روسيا على أوكرانيا كان التضخم ذلك الثقب الهائل الذي يبالع قدرة الشعب الشرائية. حسب تقرير البنك الدولي (2024): “أدى التضخم إلى تآكل الدخل الحقيقي المتاح للأسر، ولا يزال خلق فرص العمل ضعيفاً”، ويشكل الفقراء- ات أكبر متضرر من هذا التضخم: “بالنظر إلى أن المواد الغذائية، التي كانت ضغوط الأسعار عليها أكثر حدة، تستحوذ على حصة أكبر من سلة استهلاك الأسر الفقيرة والضعيفة، فمن المرجح أن يكون التأثير السلبي للصدمة أكبر على هذه الفئة” (البنك الدولي- 2024).

يشكل الغلاء والتضخم خلفية رئيسية لفهم النضالات الاجتماعية المتواترة في المغرب رغم القمع. فقضم القدرة الشرائية وتدهور الأجور تحت وقع الغلاء والديون الاستهلاكية كانت إحدى أسباب حراك شغيلة التعليم في نهاية سنة 2023. وهذا ما يفسر بدوره، جزئيا، النضالات الجارية حاليا من أجل الصحة العمومية. فالمواطنون الذين كانوا يلجأون مجبَرين إلى المصحات الخصوصية، لم يترك لهم الغلاء هامشا لولوجها، وهو ما  يفسِّر، ما تسميه الدولة “الضغط الكبير على المستشفيات العمومية”. لم يُخفِ تقرير صادر عن المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي (2019) هذا الواقع: “الاختلالات التي تعاني منها الخدمات العمومية تؤدي إلى إضعاف القدرة الشرائية للأجراء”، لكنه يتناول الأمر من وجهة نظر الرأسماليين: “وتُضر بتنافسية المقاولات… إذ بسبب الأعباء التي يتحملها الأجراء، فإن المقاولة لا تملك هامشا كافيا من أجل تفادي الارتفاع المطرد في وتيرة الزيادة في الأجور مقارنة مع الوتيرة المعمول بها في الدول المنافسة” [2].

خدمات عمومية متردية

من أين انطلقت الدينامية الاحتجاجية الجارية؟ من القطاع الذي تعتبره الدولة “تاجَ سياستها الاجتماعية” و”دُرَّة الدولة الاجتماعية”: من قطاع الصحة. فقد شكلت منجزات الدولة في قطاع الصحة محور الخطاب الرسمي الذي يمثل حسبه “معجزة اجتماعية”. صدر تقرير دولي حول “مؤشر الرعاية الصحية العالمي لعام 2025” عن موقع “Numbeo”، صنَّف “المغرب في المرتبة 94 من أصل 99 دولة شملها التصنيف، مسجلًا نقاطًا متدنية في تقييم جودة الخدمات الصحية، إذ لم تتجاوز 47 نقطة” [3].

لمدة عقود قامت الدولة بمحاباة القطاع الصحي الخاص في حين هوت بالمنظومة الصحية العمومية إلى الدرك الأسفل. وكان إضعاف الصحة العمومية أساس صعود القطاع الخاص وانتشاره السرطاني وتضخم أرباحه. لكن الوزارة لها رأي آخر، فالإجراءات التي اتخذها وزير الصحة، في أكادير على سبيل المثال، شملت إجراءات إدارية (إعفاء مسؤولين) والوعيد بإجراءات عقابية للأطقم الصحية (الأطباء والممرضين)، تعميةً عن السبب الحقيقي: السياسات النيوليبرالية في القطاع، وعلى رأسها الخوصصة وتشجيع القطاع الخاص.

تناول تقرير البنك الدولي (2024) التغطية الصحية (AMO) التي تعتبرها الدولة ذروة إنجازات معجزتها الاجتماعية في قطاع الصحة، كاتبا: “حتى الآن، لم يسجل سوى عدد قليل من العمال غير المأجورين في هذا النظام”. يشكل العمال- ات غير المأجورين- ات (أي صغار المهنيين- ات والحرفيين- ات والفلاحين- ات) قسما مهما من الشعب، وهم- هن غير مشمولين- ات بالتغطية الصحية، ما يؤدي إلى تضخم نفقات العلاج أو طول فترات الانتظار والخدمات الرديئة في المستشفيات العمومية. بينما تستأثر مؤسسات القطاع الخاص بالتعويضات الممنوحة من طرف أنظمة التغطية الصحية للعمال- ات المأجورين- ات والموظفين- ات الرسميين- ات.

عالم قروي منسي

حفز حراك الريف نقاشا قديما: التفاوتات المجالية. وركَّز الخطاب الرسمي على أن السبب هو أن النمو الاقتصادي لا يوزَّع بشكل عادل، وتضمنت التقارير ضرورة العدالة المجالية… إلخ. وكان هذا في صلب النقاشات التي قادتها اللجنة التي عينها الملك لصياغة النموذج التنموي الجديد، وجزءا من تقريرها المنشور في أبريل 2021. وهنا أيضا انفجرت النضالات ضد ما تعتبره الدولة أحد أهم منجزاتها، خصوصا مع الحماية الاجتماعية والسجل الاجتماعي وسياسة الماء.

كانت مسيرة آيت بوكماز استئنافا لنضالات القرويين- ات وسكان المراكز الصغرى، تلتها نضالات سكان تاونات وتيسة، ومؤخرا سكان أدوز جماعة فم العنصر (بني ملال) والحبل على الجرار.

عكس الخطاب الرسمي سبب تهميش القرى ليس عدم انسياب ثمار النمو الاقتصادي لتشمل العالم القروي. السبب هو نموذج النمو الاقتصادي المعتمَد في المغرب؛ نموذج تراكم رأسمالي يهتم بالمناطق التي تعطي أكبر فرص للاستثمار والربح، ولا يدخل العالم القروي في حسابه إلا إذا كان موردا طبيعيا، كمناجم الجنوب الشرقي مثلا.

رهان القمع وتحديه

 لوأد الدينامية النضالية الجارية حاليا بالمغرب، التجأت الدولة إلى الخداع والقمع. الخداع تمثل في جولات الزيارات التي قام بها وزير الصحة إلى المستشفيات العمومية والإجراءات الإدارية والعقابية ووعود بتحسين الخدمة، وما يفسِّر نقص المشاركة الجماهيرية في المسيرة الأخيرة بأكادير هو وهم إعطاء مهلة للدولة كي تنفذ وعودها.

 أما القمع فتجلى في ما واجهته الوقفات الأخيرة (21 سبتمبر 2025) من منع وتشتيت (أكادير وتزنيت وبني ملال ومكناس وتارودانت…)، في حين تمكَّن الدفق الجماهيري في مدينة تاونات من فرض مسيرة جماهيرية (20 سبتمبر 2025). واجهت الدولة الاحتجاجات التي دعا إليها شباب جين- زد بالقمع في كل المدن، وأبان هؤلاء الشباب على قتالية مشهودة ونظيرة لما شهدناه في نضالات سابقة.

طبعا في وجه المطالبات الشعبية لا تملك الدولة سوى القمع، فقد أثبتت سياسة الإحسان العمومي المسماة “حماية اجتماعية عمومية” عجزها عن توفير الحد الأدنى من خدمات عمومية جيدة، في الوقت الذي تستمر فيه الدولة في حفز ودعم القطاع الصحي الخصوصي، وتفكيك المنظومة الصحية العمومية وتحويلها إلى مَعلف للقطاع الخاص عبر تعويضات التغطية الصحية وعبر ما تسميه الدولة “تمويلات مبتكَرة”.

لا يمكن للقمع أن يقضي على الاستياء والاحتجاج إلى الأبد، فقد أبانت مسيرة تأبين أحمد الزفزافي واستقباله ابنه ناصر في مدينة الحسيمة، أن الجمرة ظلت متقِّدة تحت رماد القمع والحصار، وتنتظر فرصة الاندلاع. وها هي أوضاع المستشفيات العمومية تشكل شرارة ذلك الحريق الاحتجاجي الذي يعمُّ البلد حاليا مع احتجاجات شباب جين- زد.

رأسمالية تابعة: وضع بنيوي يستوجب قطيعة

يجد الوضع الاقتصادي والاجتماعي الموصوف أعلاه جذوره في نموذج التراكم الرأسمالي القائم بالبلد: رأسمالية تابعة للمراكز الإمبريالية، قديمُها (مثل الاتحاد الأوروبي) وجديدها (مثل الولايات المتحدة والصين). اقتصاد البلد موجَّه لتلبية احتياجات السوق العالمية من مواد خام (زراعية ومعدنية)، وتوفير قواعد خلفية لنقل أجزاء من التصنيع في إطار سلاسل القيمة (تركيب السيارات وصناعة أجزاء ذات قيمة مضافة منخفضة جدا من الطائرات)، توفير يد عاملة مؤهلة ومنضبطة ورخيصة.

هذا النموذج من التراكم الرأسمالي يخدم أيضا الرأسمال المغربي الكبير الذي يدخل في شراكة مع الرأسمال الأجنبي ويقتطع حصته من الكعكعة؛ إما عبر فتح أسواق البلدان الأوروبية في وجه منتجاته أو بالدخول في شراكة في استثماراته (الطاقات المتجددة، السيارات، البطاريات الكهربائية… إلخ).

هذا النموذج من التراكم الرأسمالي يجري تمويله عبر تكثيف المديونية، وما يستتبعه ذلك من الخضوع لمشروطيات المانحين الكبار.

دور منظمات النضال

الأزمة أعمق من أن يجري حل تداعياتها بالقمع. الاقتصاد مثل مريض ميت سريريا يجري حقنه دوما بجرعات التمويل الخارجي (القروض) وتحويلات العمال المهاجرين، وهو ما يشكل أساس الاستقرار المالي حاليا، حسب تقرير صندوق النقد الدولي: “من المرجح أن تكون ثقة السوق في الاقتصاد المغربي قد تعززت بفضل احتياطيات السيولة الخارجية القوية. وبالفعل، اعتبارًا من فبراير 2024، كان المغرب من بين اقتصادات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي تمتلك أكبر احتياطي من النقد الأجنبي… وقد أضافت الـ 5 مليارات دولار المتاحة في إطار خط الائتمان المرن، وهو التسهيل الاحترازي لصندوق النقد الدولي المخصص للبلدان ذات الأساسيات القوية للغاية، طبقة أخرى من الحماية ضد الصدمات الخارجية”.

لكن إلى متى؟ ولا تزال روح برنامج التقويم الهيكلي مستمرة إلى الآن، حيث تحدث صندوق النقد الدولي في إطار مشاورات المادة الرابعة لعام 2025، عن “الآفاق الاقتصادية المحفوفة بقدر كبير من عدم اليقين”، وحثَّ الدولةَ المغربية على موصلة “تنفيذ برنامج الإصلاحات الهيكلية المعلن عنه”، وضمنه “ترشيد الإنفاق” و”تعزيز إعادة بناء هوامش الأمان المالي” و”إصلاح الشركات المملوكة للدولة والحد من وجودها خارج القطاعات الاستراتيجية” و”مواصلة تحرير قطاع الكهرباء” [4]. هذا هو ما يشكل الجذور الأصلب للنضال الشعبي والعمالي بالمغرب، والذي تلوح بشائره منذ الآن.

تُظهر الدينامية الاحتجاجية الحالية عمق وضخامة الإمكان النضالي الذي يحبل به المجتمع. لكن وضع منظمات النضال (من نقابات وأحزاب يسارية وجمعيات) يجعل هذا الإمكان النضالي يتفكك بسرعة تحت ضربات القمع ويتبخر بسبب غياب أفق واضح وانعدام قوة اجتماعية تفتح أمامه ذلك الأفق برحابته.

تشكل الجبهة الاجتماعية الوعاء التنظيمي الذي بإمكانه، إن أرادت ذلك، أن يلف حوله ومضات الاسيتاء الشعبي وتدفقات النضال الاجتماعي الجارية حاليا بالمغرب. يجب علينا بعث الجبهة الاجتماعية وتقويتها تنظيميا وغرسها شعبيا، وإلا فإن المستفيد سياسيا من هذا الدفق النضالي الحالي سيكون حزبا من الأحزاب التي تتداول على الواجهة الحكومية للدولة منذ عقود، خصوصا وأن السياق الحالي هو سياق انتخابات.

مطالب لتجميع النضالات

تلتقي النضالات الجارية في رفض نتائج السياسات اللااجتماعية التي تسنها الدولة، ولكن كل احتجاج يسبح في واديه وحده. يحتاج توحيد النضالات إلى أرضية التقاء مطلبي، يجد فيها الجميع مطالبه:

* خدمات عمومية مجانية وجيدة: مستشفيات ومدارس عمومية بما يكفي من الأطقم الطبية والتعليمية والتجهيزات؛

* سياسة تشغيل عمومية تستجيب للخصاص المهول الحاصل في الخدمات العمومية والاجتماعية، وفرض احترام قانون الشغل في القطاع الخاص (حد أدنى للأجر يضمن العيش الكريم، الشغل القار والدائم…)؛

* الاستجابة لمطالب سكان العالم القروي من بنية تحتية وخدمات شَبكية، يكون القطاع العمومي في صلب تلك الاستجابة، وليس القطاع الخاص، الذي ينظر إلى العالم القروي مجالا فقيرا لا يستحق الاستثمار؛

* وقف كافة أشكال الخوصصة والتفويت من تدبير مفوَّض وشراكة قطاع عام- قطاع خاص والتمويلات المبتكَرة وشركات التنمية المحلية، التي تجعل الخدمات الاجتماعية والبنية التحتية مجالا لاغتناء شركات القطاع الخاص؛

* الحق في التظاهر والاحتجاج والتنظيم الجمعوي والنقابي والحزبي؛

بقلم: علي أموزاي

==========

هوامش

[1]- World Banck/ Morocco Economic Update (Summer 2024), “Unlocking the potential of the private sector to spur growth and job creation”, https://documents.worldbank.org/en/publication/documents-reports/documentdetail/099833507162426422/idu1a8b69ff518be3141551ba931ce254ae41699.

[2]- [“النموذج التنموي الجديد للمغرب”، مساهمة المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، 2019، ص 48،  https://www.cese.ma/ar/docs/النموذج-التنموي-الجديد-للمغرب/#:~:text=التنموي%20الجديد%20للمغرب-,RSR-GT-032019-ar,أجل%20النهوض%20بتنميته%20وتسريع%20وتيرتها.

[3]- غيثة مستغفر (25-07-2025)، “تقرير دولي يفضح واقع الصحة في المغرب ويكشف زيف خطاب الحكومة”، https://nichan.ma/310178.

[4]- المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي (08-04-2025)، “المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي يختتم مشاورات المادة الرابعة لعام 2025، ويعتمد المراجعة الثالثة في إطار اتفاق تسهيل الصلابة والاستدامة مع المغرب”، https://www.imf.org/ar/News/Articles/2025/04/08/pr25094-morocco-imf-concludes-2025-article-iv-consultation-third-review-under-the-rsf.

زر الذهاب إلى الأعلى