إن فائض الأخبار الأخير حول عدد مهاجري جنوب الصحراء الكبرى القادمين إلى المغرب يجعل المرء يتساءل حقًا عن مدى انفتاح هذا البلد على المهاجرين وتطوره. هل المغرب حقًا المكان الذي يسعى هؤلاء الناس إلى بناء حياة كريمة فيه؟
قد نرغب في تصديق ذلك، في حال بالفعل انعدام تقارير متعددة عن أشخاص من جميع أنحاء أفريقيا، بما في ذلك المغاربة، يخاطرون بحياتهم للوصول إلى أوروبا. مثال مذبحة مليلية[1] ، و الهروب الجماعي في 15 نوفمبر 2024، اللذان يذكرارنا للأسف بمدى قسوة تلك الرحلة. معظم سكان جنوب الصحراء لا يعتبرون المغرب وجهة لهم أصلا، بل هو مجرد طريق عبور نحو حياة أفضل. إقامتهم الطويلة هنا ليست اختيارًا، بل فرضت عليهم-ن لأن المغرب يلعب دور الحارس المطيع للحدود الأوروبية، ويمنع الناس من عبور الحدود بأكثر الطرق اللاإنسانية، بينما يُظهر وجهًا تقدميًا، وينشر كيف أن دمج المهاجرين هو واجب إنساني وفرصة للتنمية.
لكننا نجد النسخة القاسية والصريحة عن نظرة المغرب الحقيقية للمهاجرين على الإنترنت، و ليس فقط في مقالات التيارات العنصرية المعروفة و سيئة الصياغة، بل في الميمات[2] التي تتهمهم بسرقة الوظائف، وترك المغاربة عاطلين عن العمل، أو تقدمهم-ن على أنهم-ن متسولون-ات يثقلون كاهل “اقتصادنا”. بالنسبة لكلا الادعاءين، بصراحة لا أعرف من أين أبدأ بالسؤال عن أي وظائف؟ و أي اقتصاد؟
تجارة تهريب البشر مزدهرة و تعمل على وجه التحديد لأن الناس غير قادرين على العيش في هذا الاقتصاد، ببساطة لا وجود لفرص شغل، لذا يخاطر الشباب بكل شيء للذهاب إلى مكان يعتقدون أنه يوفر فرصًا أفضل.
يشعر العديد من سكان جنوب الصحراء بأنهم مجبرون على البقاء في المغرب، ويدخرون كل درهم حتى يتمكنوا من دفع المال للمهربين لمغادرة هذا البلد. يبدعون في نوع العمل الذي يقومون به. في جميع أنحاء المدن المغربية، تقدم “صالونات الحلاقة الخارجية” الغير الرسمية خدمات حلاقة بأسعار بخسة. بينما يقوم آخرون بتنظيف الشوارع، و هي خدمة مطلوبة بشدة تكسبهم-ن بقشيشًا صغيرًا. يعمل الكثيرون في قطاعي الخدمات والزراعة، اللذين تهيمن عليهما النساء إلى حد كبير، ما يبرز نمطًا يجري فيه دفع المهاجرين والنساء على حد سواء إلى الوظائف الأقل أجراً والأكثر انعدامًا للأمن، وغالبًا ما يعملون في ظروف غير إنسانية.
دعونا لا نخلط الأمور أو نعتقد أن المهاجرين وحدهم هم الذين يعانون من ظروف العمل هذه. صحيح أنهم الاكثر معاناة في مواجهة الاستغلال، لكن المغاربة بشكل عام هم أيضاً يد عاملة رخيصة في ما يسمى بـ”الصناعة” المغربية (تجميع السيارات، المنسوجات، مصانع الأسلاك… أو أي قطاع آخر موجه للتصدير يمكن أن يخطر ببالك)، يعاني العديد من العمال من بؤس أجور وطول ساعات العمل، ويظل الضمان الاجتماعي رفاهية. لكن هذا لا يكفي أبدًا للرأسماليين، الذين يبدو أنهم غير راضين عن دفع أي أجر يزيد عن لا شيء. لذا، من أجل الاقتراب من هدفهم، يُشغلون أولئك غير القادرين-ات على التفاوض للحصول على شروط أفضل، أولئك الذين يرون أنفسهم مجرد عابرين، لذا عليهم أن يبقوا مطأطئ الرؤوس حتى يتمكنوا من المغادرة.
إن إلقاء اللوم على المهاجرين في أنهم سبب البطالة، بينما تبلغ بطالة الشباب ما يقارب من 38٪، وتجاهل الإخفاقات الهيكلية الأكبر، ليس إلا نكتة غير مضحكة، سواء ظهرت في مقال أو في ميم، بل هي فوق ذلك أوهام غير أصيلة، ولا حتى من المغرب؛ بل مستوردة من الغرب وتتكرر دون أي اهتمام بما إذا كانت تنطبق بالفعل هنا.
في الواقع، يُستخدم نفس خطاب الكراهية من قبل العنصريين البيض في أوروبا، مستهدفين المهاجرين، وخاصة الشمال الأفارقيين، وغالبًا ما تصاحبه موجات عنف، مثل تلك التي نشهدها اليوم. لهذا السبب يعتبر خطاب الكراهية خطيرًا، فحتى عندما يتنكر في شكل مزحة. فهو ينزع الإنسانية عن الناس، ويجعلهم متطرفين في اعتقادهم بأنهم متفوقون ويمنحهم “الحق” في السخرية أو الضرب أو حتى قتل أولئك الذين لم يعودوا يرونهم بشرًا.
توجد آلة دعائية كاملة تروج لفكرة أننا بحاجة إلى “الحفاظ على العرق”، والعودة إلى “الأدوار التقليدية للجنسين”، وحماية الهوية الوطنية التي يرمز لها في المغرب بالزليج والقفطان أو أكبر طاجين، وعدم تعليم النساء وتزويجهن في سن 16… إذا واصلت حصر ما يٌنشر من قبل نفس المجموعات ويرتبط بالقومية، فقد يذكرنا الأمر بألمانيا النازية (لو لم يكن لديها صناعة أو سيادة) أكثر بكثير من ان يذكرنا بروح شمال إفريقيا، التي لطالما كانت ترحب بالغرباء وتفتح أبوابها لهم. لكن إذا اعتبرنا فرضا أننا قررنا تبني هذا الرأي على أي حال، بنفس المنطق يجب أن نقبل بأننا عرق أدنى، وأن نبرر أي شكل من أشكال العنف ضد المغاربة عندما يأتي من الأوروبيين؛ لأنهم أيضاً يحمون هويتهم الوطنية، بل إنهم على الأقل يستخدمون نفس الخطاب الذي صُمم في قارتهم.
يبدو أن المغاربة غير قادرين على فهم مدى أفريقيّة المغرب. جرى استعماره، لكن بطريقة ما، تشبعنا بنظرة المستعمرين إلى العالم بعمق شديد لدرجة أننا ما زلنا نرى الرجل الأبيض كإنسان من الدرجة الأولى، والمرأة البيضاء كإنسان من الدرجة الثانية، ثم تأتي كل أنواع البشرة الأخرى كانسان من الدرجة الثالثة. و بدلاً من الاعتراف بأن هذا الترتيب استعماري و العمل على تفكيكه، حاولنا أن نحفر مكانًا لنا فيه. ببشرتنا لا هي سوداء ولا بيضاء، قررنا أن نندمج من خلال التودد إلى مضطهدينا، وإهانة بقية أفريقيا. وليس فقط كأفراد عنصريين، بل إن الدولة ككل توسع مشاركتها الاقتصادية وسيطرتها على بلدان جنوب الصحراء الكبرى، تحت مسمى التعاون بين بلدان الجنوب. بينما تتوسع البنوك المغربية وشركات الاتصالات وعمالقة العقارات في جميع أنحاء غرب إفريقيا، ليس من أجل “توحيد إفريقيا”، بل من أجل جني الأرباح. خذ على سبيل المثال بنك Attijariwafa، الذي يعمل الآن في أكثر من اثني عشر بلداً أفريقياً. يُحتفى بتوسعه كـ “قيادة أفريقية”، ولكن أرباحه تعود في المقام الأول إلى المغرب، وهذا مثال نموذجي للاستغلال (الاستثمار الأجنبي، الاستخراج المحلي، دورة التبعية). كما يجري تحويل الأرباح إلى البنوك الأوروبية، حيث تمتلك هذه الأخيرة جزءاً كبيراً من رأس المال المصرفي المغربي: “أكثر من عشر مؤسسات مالية… بالإضافة إلى ذلك، يمثل رأس المال الأجنبي حصة كبيرة في أكبر ثلاثة بنوك مغربية (Banque Populaire Centrale وAttijariwafa Bank وBanque Marocaine pour le Commerce Extérieur)”.[3]
ما يذكرنا بالديناميات بين المغرب والاتحاد الأوروبي، وخاصة فرنسا. فالمغرب مستعمرة جديدة تمكنت بطريقة ما من أن تصبح مستعمرة جديدة أيضًا، ولأن هذه هي فكرة الطبقة الحاكمة عن التقدم، أصبح لدينا الآن هذه الكتلة من الناس التي تعتقد أن هذا هو معنى الوطنية. هذه التيارات أصبحت الآن قوية بما يكفي للمطالبة بقوانين أكثر صرامة ضد المهاجرين، وإغلاق كامل للحدود أمامهم، في حين أن ما يجب أن نغلق حدودنا أمامه ليس الناس، بل الاستغلال الرأسمالي، حيث تنتقل مواردنا الطبيعية و يدنا العاملة الرخيصة بحرية إلى أيدي الشمال العالمي، ما يسمح للأغنياء بتكديس الثروة بينما نحن نعيش الفقر. حتى المغرب، في أحلامه بالانتماء إلى هذا الشمال، لا يسمح إلا للنخبة بمراكمة الثروة من أفريقيا، دون توزيعها على الصعيد الوطني، فأي تنمية هذه التي ندافع عنها وعن من ندافع بالضبط؟
نفس الشيء بالنسبة لأوروبا أيضاً، حيث يتبع العمال روايات عن كيف أن “المهاجرين يسرقون وظائفكم”، أو يلومون النساء بقولهم “كل امرأة عاملة تعني رجلاً عاطلاً عن العمل”، في حين لا أحد يوجه أصابع الاتهام إلى الرأسمالية التي تضع وتدعم هذا التعصب لتضمن لنفسها تدفقاً مستمراً من اليد العاملة الرخيصة المقسمة، سواء في المغرب أو أوروبا أو أي مكان آخر يوجد فيه بشر و طبيعة قابلان للاستغلال.
كما يجري استلابنا بفكرة خادعة مفادها أن قربنا الجغرافي من أوروبا يرخص لنا بأن نكون عنصريين، لكن الواقع يذكرنا بأننا، عندما يتعلق الأمر بحقوق الإنسان، نحن أقرب بكثير إلى سوريا. ولا ينبغي أن نجرؤ على افتراض أننا “بشر” بما يكفي لنحظى بالحق في الهجرة، تمامًا كما لا يُعتبر الفلسطينيون بشرًا بما يكفي ليحظوا بالحق في الحياة. هذا لا يعني أن الدول الغربية هي جنة الديمقراطية، كما يروج. الولايات المتحدة نفسها هي جحيم للمهاجرين، كما هو الحال في أوروبا اليوم مع صعود اليمين المتطرف، والهجمات النيوليبرالية على الحقوق الموروثة، وتآكل الهوامش الديمقراطية. وللتغطية على ذلك، يُقال لنا باستمرار أن كل هذا بسبب “الحكومات الفاسدة” في أفريقيا، إلى أن يبتلع الأفارقة الطعم ويقرروا الهجرة بأي طريقة ممكنة، ليواجهوا الإذلال والعنف، هنا في المغرب قبل أن يصلوا إلى الساحل الآخر.
الأشخاص الذين يقعون في فخ الروايات العنصرية ليسوا سيئين بطبيعتهم، بل غالب الضن انهم غير قادرين على تخيل شكل محلي ولامركزي للدفاع عن الهوية والثقافة. غير قادرين علر استوعاب ان الثقافة هي التي تشكل الناس وتجعلهم متنوعين . لذا فكرة “حماية الثقافة” يجب أن تكون متمحورة حول الناس، وليس الحدود، ولا الأعلام، وبالتأكيد ليس حول المشاريع القومية التي تخدم في النهاية مصالح الأقلية الوحيدة التي يحترمها القوميون حقاً (الأغنياء).
علينا أن نعترف بالطبقة العاملة الأفريقية، وأن ندافع عن أفريقيا موحدة، وأن نتعلم احترام الثقافات بدلاً من عبادتها. لأن الهوية لا تحتاج إلى دولة أو علم أو حدود لكي توجد، القومية هي التي تحتاج إلى ذلك. و تعرف جيدا كيف تتخفى في ألواننا ولغاتنا وآلامنا، وتبيعنا الوهم بأنها الحماية الوحيدة لنا، لكن حمايتنا ضد من؟ ضد الأمم الأخرى!؟ كل ذلك بينما تعرض التنوع الثقافي الذي تدعي الدفاع عنه للخطر.
لنأخذ مثال الثقافة الأمازيغية. غالبية المتحدثين بها يفتقرون إلى أبسط الاحتياجات الأساسية. تُحرم نسائنا من الولادة الآمنة، وعندما يجري تعيين طبيب في المنطقة، فمن المحتمل ألا يكون متحدثًا باللغة الأمازيغية، ولا يستطيع سوى تخمين ما بقوله مريضاه و مريضاته. الأطفال غير قادرين على تعلم جمال ثقافتهم لأن مدارسهم تعمل بلغة لا يتحدثونها. تُحظر الملابس التقليدية في بعض الأماكن (المطاعم والحانات…)، وقد أصبحت باهظة الثمن بحيث لا يستطيع الشخص من الطبقة المتوسطة شراءها أو خياطتها في ظل الوضع الاقتصادي الحالي، حيث يعمل الشخص ليتمكن من العمل، وليس للعيش. يعتمد مطبخنا على مكونات لم نعد نزرعها في أراضينا، لأنه من المربح أكثر استيراد المواد الغذائية وتصدير المحاصيل عالية القيمة. في الواقع، إذا كان المطبخ المحلي يعني حصريًا الأطعمة المزروعة محليًا، فإن طبقنا الأكثر شهرة سيكون الآن سلطة فواكه استوائية. ومع ذلك، تصر التيارات الشوفينية الأمازيغية على جعل المهاجرين أعداء.
كوكبنا هو الاخر يغلي بسبب نفس نظام العنصرية والاستغلال والإبادة الجماعية الذي يفرط في الإنتاج من أجل الربح. لكنهم ما زالوا يصرون على تبسيط “قضية الأمازيغ” إلى قضية عرقية. لا يمكن الحفاظ على الثقافة دون الحفاظ على الناس. ولا يمكن الحفاظ على الناس دون الحفاظ على الكوكب. السؤال هو: ما الذي نحاول الحفاظ عليه حقًا، وممن ؟ هل هو لون بشرة موحد؟ هل هو رداء موحد النمط؟ أم هو حق الجيل القادم في تنفس هواء نقي، وتناول طعام صحي، وشرب مياه نظيفة، والحصول على وقت للعب، والأهم من ذلك، العيش دون الشعور بالحاجة إلى الاستغلال أو التعرض للاستغلال! نشهد اليوم على التسليع الشامل لحياتنا الاجتماعية والثقافية، تحت شعار “رأس المال غير الملموس”، الذي كان شعار تقرير صادر عن أكبر مؤسسة استعمارية تتحكم في صنع القرار الاقتصادي في المغرب: البنك الدولي في عام 2017.
نحن أفارقة، ويجب أن نحتضن أفريقيتنا، ليس لكي نبدأ في الحلم بإعادة رسم حدود جديدة موسعة أو إنشاء نوع جديد من التسلسل الهرمي حيث يكون الأفارقة هم العرق المتفوق الجديد، ولكن لكي نعترف بالإرث الاستعماري المشترك الذي فرضته الرأسمالية العالمية. إن بقاءنا، وبقاء ثقافاتنا وكرامتنا وكوكبنا، يعتمد على ذلك.
و الخطوة الأولى نحو ذلك في المغرب هي القطع مع خطاب الدولة، التي تصور نفسها على أنها دولة “تقدمية” تقود مجتمعًا متخلفًا وكارهًا للأجانب، وتحمي حقوق المهاجرين من خلال تسوية وضعهم القانوني بشكل دوري، وتنقذ النساء من التيارات المحافظة، أو كيف تلبي مطالب الأمازيغ على الرغم من التيارات العربية الشوفينية… هذا لا يؤدي إلا إلى تعميق الضغائن بين هذه المجموعات، وجعل هذا النضال من أجل حياة كريمة شيئًا ما هو عليه. دعونا نوضح أمرًا واحدًا، طالما أن هذا “التقدم” لم يصل إلى نساء الأطلس، والمهاجرين في أحياء الدار البيضاء الفقيرة، وصغار المزارعين في دكالة، فإنه ليس تقدمًا على الإطلاق، بل هو مجرد خداع بصري.
بقلم صفاء أقراب
ترجمة وحيد
أعضاء أطاك المغرب
1 فخ الحدود بين الناظور ومليلية – التحليل الجنائي للحدود
[2] ميم (اسم): محتوى ثقافي أو فكري (صورة، عبارة، رسم، مقطع فيديو…) يُنشأ ويُتداول على نطاق واسع عبر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، غالبًا في سياق ساخر أو نقدي أو طريف، ويُستخدم للتعليق على أحداث أو ظواهر أو أفكار بطريقة مختصرة وسهلة الانتشار.
[3]– محمد أوبنال وعبد اللطيف زروال (ديسمبر 2018)، “تحول الهيكل المالي للرأسمالية المغربية”، المجلة المغربية للعلوم السياسية والاجتماعية، العدد 12 – الجزء الثالث عشر