“تاريخنا مليئ بالنضالات، بما فيه تلك التي تكللت بالنجاح في العشرين سنة الماضية. هي مادة غنية لمراكمة التجارب وتفادي أخطاء الماضي”، من رسالة عمر الراضي: “إلى الشباب الحالم بمغرب اخر. مغرب اخر (ممكن جدا) إذا تضافرت جهودنا جميعا”، 26 سبتمبر 2025.
شباب نريد أن يعيش. هذا ما يمكن أن يُستفاد من مطالب إعلانات الاحتجاج يومي 27- 28 سبتمبر 2025. مطالب أدنى بكثير مما كان يُرفع قبل عقد ونصف، حينما اقتحم شباب آخر ساحات البلد تحت مسمَّى “حركة العشرين من فبراير”: التعليم، الصحة، العدالة، التشغيل. لكن ليست هذه سوى بداية. إلا أنها بداية مفعَمة بالأمل. بداية تَكسر حلقة اليأس المفروض علينا نحن شباب البلد، حلقة تفرض علينا الخنوع أو الهروب من البلد عبر الهجرة إلى إلدورادو العملة الصعبة، أو الهروب من الواقع (المخدرات). لقد اكتفينا يأسا ونريد بلدا يتسع لأحلامنا وطموحاتنا.
في تدوينة منشورة على الفايس تحت عنوان “راه صبرنا بزاف… ولكن باراكا!”، تشرح كيف ننظر نحن الشباب إلى واقع البلد: “بلاد كل شيء فيها مقلوب: شباب عاطل، مستشفيات ترمق فيها الموت بعينيك، التعليم في الحضيض، الناس تخاف من المرض حيث لا دواء ولا طبيب، السكن والشغل أصبحا حلما، ورغم ذلك إن نطقتَ يصفونك بالفوضوي”. [23 سبتمبر 2025، https://www.facebook.com/share/p/1ZERNhKRqX/]. واقع أصبح أكثر إيلاما، لأن استقبال محطة رياضية لن تدوم سوى أياما، يُكلف نفقات باهظة يُبخَل بها على الأساسي للحياة من تعليم وصحة وشغل: “أن يقع هذا الأمر المشين في مغرب 2025، المغرب الذي يضخ أموالا هائلة ومبالغ غير مسبوقة، لا في أي قطاع اجتماعي، بل لاحتضان منافسة رياضية ستدوم شهرا، هو أمر صادم للجميع”، كما قال عمر الراضي في رسالته.
لكن ما الشرط لكي يتكلل احتجاجنا بالنجاح؟ أورد عمر الراضي في رسالته بعد لقائه مع شباب مجموعة GenZ212، شرطين لا غنى لهما: 1) “إذا تضافرت جهودنا جميعا”؛ 2) مراكمة التجارب وتفادي أخطاء الماضي”.
1- تضافر الجهود
طبعا ليست هناك حاجة لتكرار هذه هذا الشرط، فهو في صميم الاحتجاجات القائمة حاليا، ووردت في التدوينة الواردة أعلاه: “يوم 27/28 الشعب المغربي كُله ملزم بالخروج، وألا نترك الناس الكبار والنساء يتعرضون للقمع. حتى الشباب يلزمه أن يخرج: الشباب الحاصل على شهادات متميزة وعاطل أو مشتغل بأجور ضعيفة. نريد أيضا روابط الألتراس نريدها أن تخرج. كفى من كرة تُلهينا عن الحياة الواقعية، ليس معقولا أن نكون شعبا يصفق في الملاعب وساكت على حقه”.
لا مناص لنا من توسيع نطاق الاحتجاج، ومن مضاعفة عدد ومستوى الأفعال الاحتجاجية المنسَّقة على نحو يفضي إلى احتجاج أوسع يشمل نطاقا أوسع من الفاعلين- ات ويمد جسرا بين مطالبهم- هن. في سابق نضالاتنا، كانت هذه الأخيرة لا تتجاوز أبدا السياق المحلي أو الفئوي أو المؤسسي الذي تنبع داخله. لكن الحركات العظمى التي تقدر على تغيير حقيقي، هي التي تتسع لتشمل نطاقا أكبر وانخراطا لأوسع الشرائح الاجتماعية.
2- مراكمة التجارب وتفادي الأخطاء
نحن شباب، لكننا أيضا بشر. وكل البشر خطَّاؤون. لذلك لا يمكن تفادي الأخطاء لكن يمكننا الاستفادة من أخطاء الماضي لتفاديها، بينما ستشكل أخطاء الحاضر، دروسا لمن سيأتي بعدنا من المستقبل… وهكذا لبنة لبنة سنتمكن من بناء صرح المغرب الآخر الذي سيتسع لأحلامنا وتحقيق طموحاتنا.
نحن لسنا معزولين- ات عن الماضي، بأخطائه وإنجازاته العظيمة، فنحن نتاج ما تراكم من نضالات سابقة. ولكي لا نتعمق أكثر في الماضي، نحن أولاد وبنات حركة العشرين من فبراير وحراكات الريف وجرادة، ونضالات الطلبة الأطباء والجيل الشاب من المدرِّسين- ات، وحملة مقاطعة السلع الاستهلاكية، ونضالات التلاميذ ضد مسار والساعة الإدارية… بدون هذه التراكمات لم نكن لنتمكن من إطلاق التعبئة الجارية حاليا.
لكننا أيضا أبناء وطن تخلت فيه تنظيمات النضال (من نقابات وأحزاب وجمعيات) عن احتضان أحلامنا، بينما عجزت أخرى نظرا للانفصال القائم بينها وبين الشباب عن أن تكون قاطرة تنظيم تلك الاحتجاجات.
نحن أيضا أبناء بلد تُقمَع فيه حرية التعبير، ويُحبَس الشباب بسبب تدوينات أو تعبير عن رأي مخالف لما سائد اجتماعيا وثقافيا.
هل نكتفي بالشبكات الافتراضية؟
لقد انطلقنا من الشبكات الافتراضية لبث دعوة الاحتجاج يومي 27- 28 سبتمبر. يذكرنا هذا بحملة مقاطعة السلع الاستهلاكية سنة 2018. كانت خلاصة تلك السنة كما وردت على لسان الشباب الداعي للمقاطعة، خلاصة مستقاة من قمع حراك الريف: “إن خرجتَ للاحتجاج تُقمع وتُسجن. لذلك عبِّئ هاتفك، وناضل من منزلك”.
كي نستفيد من أخطاء الماضي، لم يكن ذلك كافيا. لم يكن يكفي النضال من المنزل لهزيمة كبريات الشركات والغلاء والتضخم. نعم تمكنا من فرض تنازل على الشركات الثلاث المستهدفة وألحقنا بها خسائرا مادية، ووجهنا رسالة احتجاج قوية أكدت قدرة الشعب على ابتكار أساليب فعّالة غير تقليدية. لكن كان لا بد من “تضافر الجهود”، كان لا بد لدعوات المقاطعة من “الشبكات الافتراضية” أن تكتسي لحما ودما وتنمِّي عمودا فقريا وهيكلا عظميا لكي تضمن نجاحا أكبر ومستداما.
ليست هذه أول مرة يُعتقَد فيه أن الشبكات “الافتراضية” قادرة على تحريك المجتمع لوحدها، في 2011 كان فايسبوك وحاليا الديسكورد. كان هذا اعتقادنا طيلة سنة 2011، عندما كان الربيع العربي في أوجه. لكن ذلك لم يكن يعبِّر عن الحقيقة كما هي على الأرض، أو كان يعبِّر فقط على نصف الحقيقة، بينما يغيِّب النصفَ الآخر.
نصف الحقيقة التي كان يعبِّر عنها هو ظهور فاعلين جدد، هم شباب مقدام معتمِد على خبرته التقنية ومهارته في اقتحام مجال الانترنت، فضلا عن اتصاله بالثقافة المعولمَة، ما جعله يستاء من البؤس الثقافي والاجتماعي، مقارنة بما يلحظه في بلدان أخرى، تبدو من بعيد على أنها فعلا جنة مقارنة مع جحيم منطقتنا.
لكن نصف الحقيقة الغائبة، أو المغيَّبة، هو أن تلك الشبكات الافتراضية، ما كان لها أن تنجح لولا الشبكات الواقعية الموجودة على الأرض. وعبر الشبكات الافتراضية استطاع أولئك الشباب تعزيز النشاطات التي كانت تُعتبَر تقليدية، وجعلها أقوى بما لا يقاس.
يتيح الالتقاء في الوقفات الاحتجاجية التقاء أناس حقيقيين من لحم ودم، وليس حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي. هذا الالتقاء سيسمح لنا بإنشاء شبكات تنظيم فعلية هي الوحيدة القادرة على ضمان استمرار الاحتجاج وقيادته حتى النصر. فالنشاطية الافتراضية عديمة الفائدة لوحدها إلى حد بعيد، لكن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي قادر على جعل الاحتجاج الفعلي أقوى بما لا يقاس.
استقلال ولكن ليس انفصالا أو انعزالا
كل الحركات التي أطلقناها في السابق كانت حريصة أشد الحرص على الاستقلال عن الأحزاب السياسية القائمة. لكننا ارتكبنا أخطاءً جعلتنا في آخر المطاف نكون حطبا لنار طُبِخت عليها تلك الفطيرة التي اقتسمتها الأحزاب القائمة.
مهما بلغت نضاليتنا داخل الشبكات الافتراضية وحتى الواقعية، وبدون أن نكون على بيِّنة من المشاريع السياسية القائمة، فإن هذه الأخيرة هي التي ستقطف ثمار جِدنا، فتكون النتيجة: من جَدَّ لن يجِد، وسنكون نملة تمدُّ الصراصار بزاد شتائه.
الاستقلال نعم، لكن ليس الانفصال والانعزال. لا يمكن أن نعرف كيف تستفيد تلك الأحزاب من نضالاتنا إذا لم نكن على بينة، ليس من نواياها وحسب، بل أيضا من سياستها الفعلية. ليس هناك من ضير أن يكون في صفوفنا متحزبين- ات، وفي الحقيقة لا يمكن منعهم- هن، إذ يمكن أن يتسللوا دون معرفتهم- هن. لذلك فضمان الاستقلال الفعلي هو السماح للجميع بأن يُشهِر هويته السياسية، ونضمن للجميع حرية التعبير وحرية إبداء الآراء… والفاصل هو الديمقراطية الداخلية داخل لقاءاتنا: القدرة على إقناعنا كشباب، سواء كان متحزِّبا أو غير متحزِّب. يستحيل أن نناضل من أجل حرية التعبير في المجتمع والدولة ونُحرِّما داخلنا، وقد عبَّرت تدوينة منشورة على صفحة Genz212 عن ذلك أفضل تعبير: “حرية التعبير ركيزة كبيرة في أي بلاد ديمقراطية… المغاربة لديهم الحق الكامل كي يعبروا عن آرائهم ومواقفهم”. (23 سبتمبر 2025، https://www.facebook.com/share/p/176uT9W2nk/].
التخوف من السياسة لن يجنّبنا السياسة. الانعزال عن الأحزاب لن يفوِّت الفرصة عن الأحزاب القائمة عن استغلال نضالاتنا. القاعدة هي: كل ما تبرأتَ من تهمة إلا وزِدتَ شبهةً، ولسنا ملزَمين بتبرير أنفسنا أمام كل وافد يتهمنا بالفوضوية واللاوطنية.
الراغبون لم يكونوا قادرين، والقادرين لم يكونوا راغبين
أحد دروس الماضي هو دور التنظيمات النقابية في النضالات السابقة. حين اقتحمنا الشوارع سنة 2011، كان أول أمر قامت به الدولة هو استدعاء قيادات النقابات إلى اجتماع تمخَّض عنه اتفاق أعطى زيادات في الأجور ووعود بتحسين الأوضاع الاجتماعية للعمال، ولكن مقابل ذلك التزمت القيادات النقابية بعدم الانخراط “الفعلي” في تظاهرات حركة 20 فبراير. وكان ذلك أهم سبب من أسباب تراجع الحركة، فالراغبون (أي نحن شباب الحركة) لم نكن قادرين على فرض المطالب، بينما القادرون (أي قيادات الحركة النقابية) لم يكونوا راغبين في الانخراط. وهم ليسوا قادرين لأنهم فقط قيادات، بل لأنهم يجلسون على رأس تنظيمات تضم آباءنا وأمهاتنا العاملين- ات بأجر.
لا يمكن أن نحُل محَلَّ من يستطيع لوحده انتزاع المطالب: أي من يتحكَّمون في آلة الإنتاج والتبادل. إنهم من يشتغلون في المزارع والمصانع والإدارات والمتاجر الكبرى ومراكز النداء والمستشفيات والمدارس العامة والخاصة. كل ما نستطيعه نحن هو أن نفتح الطريق أمامهم.
إنهم آبائنا وأمهاتنا، وهم مجبَرون- ات على الكدِّ والكدح ساعات طوال لاكتساب ما يُطعموننا ويكسوننا ونفقات تدريسنا، بل أكثر من ذلك كلفة ولوجنا إلى الانترنت. إنها مهمة صعبة لكنها ليست مستحيلة. قبل عامين قام قسمٌ من أمهاتنا وآبائنا بأكبر نضال شهدته ساحة البلد: حراك التعليم. وكانوا يناضلون من أجل جزء من مطالبنا: تطوير المناهج وتحسين جودة التعليم، توفير التعليم المجاني والعادل للجميع، تكوين المعلمين وتحسين أوضاعهم.
وهناك القسم الشاب من العاملين بأجر، وهو الطلبة الأطباء والأطباء الشباب، والجيل الشاب من المدرِّسين- ات. هؤلاء كان لهم سبق في استعمال الشبكات الافتراضية والتنظيمات الشبكية الأفقية. سيكون هذا القسم الشاب من العاملين – ات بأجر واسطتنا تجاه تعبئة الأقسام الأخرى من العمال- ات بأجر، كي نشكل فعلا تلك “الكتلة الحرجة”، التي ستتمكن، ليس فقط من تفادي القمع، ولكن أيضا من جعل “المشاركة السلمية وتجنب أشكال العنف والتخريب” واقعا ممكنا. فكلما كان التنظيم أقوى وكلما اتسعت المشاركة الشعبية، تمكَّنا من تفادي القمع والعنف.
هكذا سنكون فعلا ثغرة يتدفق منها المكبوح من النضالات
الاستياء من الأوضاع بلغ مبلغه، وهو يحتاج فقط ثغرة يتدفق منها. أن نكون تلك الثغرة هي المأثرة التاريخية التي ستُسجَّل بمداد الفخر في سجِّل البطولات التي سيتذكرها أبناءنا وبناتنا. مهمتنا أن نُحدِث ثغرة في سد القمع والاحتقار، ثغرة لن يمكن سدها ثانية، لأنها ستسمح بانطلاق فيض هادر من الطاقة الحبيسة. يتطلب إحداث هذه الثغرة حبَّ استطلاع وتوفيق وتصميم وشجاعة للتصرف بما يتعارض مع السائد، ولكن أيضا عدم قطيعة مع ما كان مفيدا في الماضي، كما يتطلب والصمود أمام الضغط القوي للخضوع… وجيل زد GenZ قادر على ذلك.
بقلم: علي أموزاي