Site icon أطاك المغرب

سيكوم سيكوميك: الشجرة التي تخفي قصة قطاع النسيج بالمغرب

خلَّدت عاملات سيكوم- سيكوميك ذكرى مرور عام على اعتصامهن البطولي ضد تسريحهن الجماعي من طرف أرباب عمل الشركة. تبدو القصة وكأنها خاصة بشركة سيكوم- سيكوميك، في حين أن ما وقع لعاملات هذه الشركة ليس إلا التطرف الأقصى لما يمثل قاعدة عامة لقطاع النسيج بالمغرب، وهكذا فإن مأساة عاملات سيكوميك ستبدو لعمال وعاملات شركات النسيج الأخرى كمن يرى نفسه في مرآة المستقبل. وسيقع هذا لا محالة، إذا ظلت الطبقة العاملة، في قطاع النسيج وغيره، تتفرج على مأساة عاملات سيكوميك، دون القيام بواجب التضامن العمالي.

قطاع النسيج بالمغرب: قصة قديمة

قصة قطاع النسيج بالمغرب قديمة، وتعود إلى المرحلة الاستعمارية، وهو شأن الصناعة المغربية بمجملها. إذ حرصت فرنسا الاستعمارية على جعل المغرب حديقة خلقية لجلب الموارد المعدنية والفلاحية. وحتى الحرب العالمية الثانية “لم يكن لدى المحمية سوى القليل جداً من الصناعة”[1]، واقتصرت الصناعة بعد الحرب على قطاعات “الميكانيكا الصناعية وتركيبات كهربائية وأطر معدنية.. إلى جانب وحدات إنتاج السلع الاستهلاكية (المنسوجات والصناعات الغذائية)”[2]، تركزت كلها في مدينة الدار البيضاء. أدت منافسة البضائع الأجنبية إلى شبه خراب الحرف التقليدية دون أن يوازيها خلق قطاع صناعي حديث يستوعب اليد العاملة الناتجة عن ذلك الخراب، والتي انضافت “إلى البدويين الذين هاجروا لعدم توفرهم على أرض يزرعونها، ليضخموا البروليتاريا وأشباهها، الذين ليس لهم شغل قار، ويتراكمون في المدن الجديدة”[3]. إن عاملات سيكوميك هن حفيدات أولئك الحرفيين وفقراء البوادي الذين شردهم الاستعمار القديم، ويواصل الرأسمال المغربي بتحالف مع الرأسمال الأجنبي (الاستعمار الجديد) استغلاهم- هن وتشريدهم- هن. وبذلك فإن معركتهن حالية مواصلةُ لنضال أجداهن ضد الاستعمار القديم، أي نضال ضد الاستعمار الجديد، الذي يمثله الرأسمال الأجنبي ووكيله الرأسمال المحلي، وخادمهما، أي الدولة.

بعد الاستقلال، ومع مغادرة الرساميل الأجنبية، حاولت الحكومة التقدمية بقيادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، مستوحِية اشتراكية العالم الثالث، إحداث قاعدة صناعية وطنية، ولكن الدولة، مدفوعة بإملاءات صندوق النقد الدولي، وقفت في وجه تلك المطامح، متبنية الليبرالية الاقتصادية ومعتمِدة على تطوير القطاع الفلاحي والخدمات (السياحة)[4]. إلا أن تهرُّب القطاع الخاص المغربي من الاستثمار بعيد المدى وتفضيله استثمارات ذات الربحية السريعة والمضمونة، دفع الدولة بدءا من منتصف الستينيات، إلى استعادة سياسة التخطيط التي كانت بدأتها حكومة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. قامت الدولة بـ”شراء حصص في شركات مختلفة (التكرير والهندسة الميكانيكية والنسيج والأغذية وغيرها)، بالاشتراك مع رؤوس أموال خاصة، بعضها أجنبي (فرنسي، إيطالي، أمريكي)”[5].

اعتمت الدولة آليات السياسة الصناعية لدعم الرأسمال المغربي الناشئ، مثل “إحلال الواردات” و”الحمائية” و”قانون المغربة”. وكانت هذه السياسات هي أساس نشوء تلك القاعدة الصناعية، إذ توافقت “مراحل النمو الكبير في حجم القطاع الصناعي المغربي مع مراحل السياسات الصناعية المخصصة. وقد حدث النمو ‘الأسرع’ خلال العقد الذي جرى فيه تفضيل إحلال الواردات، ولكن مقترنًا ببرامج استباقية أخرى قادتها الدولة. فخلال السبعينات، كان النمو السنوي في الصناعة الذي بلغ 11%، والذي موَّل القطاع العام وشبه العام ثلثيه، هو الذي قاد التوسع في تلك الفترة”[6]. كان التخلي عن هذه السياسات الصناعية، بحفز من أزمة المديونية بداية الثمانينيات وتدخل صندوق النقد الدولي (برنامج التقويم الهيكلي) وراء تراجع الصناعة المغربية، وضمنها النسيج، خصوصا مع الانخراط في منظمة التجارة العالمية وتوقيع اتفاقيات التبادل الحر.

الانعطافة: الانفتاح الاقتصادي

اختار المغرب نموذج نمو قائم على الصادرات. وظل اقتصاده مرتبطا بالمستعمر القديم (الاتحاد الأوروبي). ففي مجال التصنيع، وبدءا من سنة 1983 اعتُمدت استراتيجية “التعاقد الدولي من الباطن، خاصة في قطاع النسيج والملابس”[7]، الذي مثَّل نسبة 50-60% من قطاع النسيج المغربي[8]. وفي مجال التوزيع، فإن أسواق الاتحاد الأوروبي كانت الزبون الرئيسي للقطاع، خصوصا فرنسا وإسبانيا اللتان استحوذتا على 75%[9] من صادرات النسيج المغربي في العقد الأول من سنوات 2000.

جرى تأطير نموذج النمو القائم على الصادرات بانفتاح تجاري شبه معمَّم، بعد انخراط المغرب في منظمة التجارة العالمية (1995) وتوقيع اتفاقية التبادل الحر مع الاتحاد الأوروبي[10] (دخلت حيز التنفيذ سنة 2001). هكذا أصبح قطاع النسيج- شأنه شأن باقي قطات الاقتصاد- مكشوفا في وجه المنافسة الشديدة في السوق العالمية، خصوصا مع انتهاء “الحصص التفضيلية الممنوحة لصناعة النسيج الوطنية بموجب نظام الاستثناءات في الترتيب 14 متعدد الألياف بعد إنشاء منظمة التجارة العالمية “[11].

جعَ ارتهانُ الاقتصاد المغربي بالسوق العالمية قطاعات الصناعية المكشوفة، بعد إزلة الحوافز التي أتاحت للرأسمال المغربي قادرا على المشاركة في الصناعات الكثيفة (حوافز، حماية جمركية…)، غيَر قادرة على الصمود في وجه المنافسة الأجنبية، خصوصا من الصين وأوروبا الشرقية وتركيا.

كما أدت التطورات التكنولوجية إلى تراجع ما كان يشكل نقطة قوة رأسماليي بلدان العالم الثالث (وضمنها المغرب)، أي انخفاض كلفة اليد العاملة. فالأتمتة جعلت كلفة إنتاج وحدة السلع أرخص مما كانت عليه سابقا، وضيقت قوس الاستعانة باليد العاملة الأجنبية لتفادي ارتفاع كلفة اليد العاملة بالمراكز الرأسمالية.

بسبب انعطافة الانفتاح الاقتصادي هذه، “أَغلقت العديد من مصانع الغزل في المغرب مصانعَها في أقل من 10 سنوات بسبب تكاليف عوامل الإنتاج، وصعود المنافسة الشرسة من الدول الآسيوية (الصين، بنغلاديش، الهند، إلخ)، ووجود أنشطة غير رسمية وسوق محلية تهيمن عليها الامتيازات الأجنبية”[12].

إن ما ما تعانيه عاملات سيكوميك لمدة أربعين سنة، ليس إلا قمة جبل الجليد لقطاع ضعيف جدا جرى فتحه، بسياسة واعية، في وجه المنافسة الأجنبية. وهذا الانفتاح يعبر عن مصالح اجتماعية محدَّدة: الرأسمال المحلي الذي يستفيد من كونه وكيلا للعلامات التجارية الكبرى، فيفضل الاستيراد والاشتغال كمقاول من باطن لصالح الرأسمال الأجنبي، ولتذهب الطبقة العاملة والمستهلِك المغربيين إلى الجحيم.

تآكل ميزة المغرب النسبية: تكاليف الأجور

نتج عن هذا التغير في السياق الدولي، تآكل ما كان يشكل الميزة النسبية الأساسية لرأسماليي المغرب، التي كانت تستند تقليديا على تكلفة اليد العاملة المغربية، إذ انفتحت على السوق العالمية مناطقٌ جغرافية واسعة كانت منفلتة منها؛ خصوصا أوروبا الشرقية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، والصين بعد سياسة الانفتاح (منذ ثمانيتيات القرن العشرين).

ليس هذا فقط ما أسهم في تآكل هذه الميزة النسبية، بل أيضا تطورات صناعة النسيج على المستوى العالمي، إذ أدت “موجة تعويض الجلود بالمواد الاصطناعية في إنتاج الأحذية والإكسسوارات إلى تغيير العرض العالمي لهذا المنتج. لم تعد تكلفة الأجور عاملاً محددًا في التكاليف الإجمالية (يمكن تجميع جميع الأحذية آليًا)”[13].

يشير هذا إلى واقع أساسي ظل يسم صناعة النسيج بالمغرب منذ عقود: قطاع ضئيل التصنيع ويعتمد على التعاقد الدولي من الباطن ومستنِد إلى رخص تكاليف اليد العاملة. ويمثل قطاع النسيج نموذجا دالا مصغَّرا لهيكل الإنتاج المغربي: الاعتماد على المُدخلات المستورَدة ما يعيق تطور صناعة محلية للسلع الرأسمالية الوسيطة. واقع عبرت عنه بالحرف دراسة صادرة عن المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية: “يعتمد القطاع اعتماداً كبيراً على الأسواق الخارجية. ويؤثر ضعف صناعته الأولية تأثيرًا حاسمًا على تطوره وقدرته التنافسية – سواء من حيث السعر أو غير السعر. وتعتمد قدرتها على تصدير المنتجات النهائية بشكل أساسي على واردات المواد الخام (الغزل والنسيج والإكسسوارات)، والتي تتراوح نسبتها بين 80% و90%. ويجد الإنتاج المحلي، العاجز عن غزو أسواق جديدة، صعوبة في سوق محلية تغزوها منتجات مستوردة ذات قدرة تنافسية عالية”[14].

كما أن انخفاض تكاليف اليد العاملة يؤدي إلى انخفاض القدرة الشرائية المحلية، ما يجعل الصناعة المحلية ترتبط أكثر بالسوق الخارجية. والنتيجة ارتباط مزدوج: تزوُّد بالسلع الرأسمالية الوسيطة والآلات وتسويق المنتوج، الذي يواجه منتوجات أكثر تنافسية قادمة من بلدان أخرى (جنوب آسيا، وتركيا). هذا “السباق نحو القاع” بين بلدان العالم الثالث، حول أي منها سيستفيد من حصة أكبر من السوق الدولية (الأوروبية بالخصوص)، يجعل اليد العاملة هي من يتحمل كلفة ذلك السباق.

رغم كل التطورات في السوق العالمية منذ أزمة 2007- 2008، خصوصا تراجع الطلب الأوروبي، فإن الخيارات الاستراتيجية للمغرب ظلت هي نفسها: نموذج نمو قائم على الصادرات، وإغراء الرأسمال الأجنبي للإسهام في تصنيع البلد. وبعد أزمة كوفيد 19- كما كان الأمر بعد أزمة 2007- 2008 وأزمة منطقة اليورو (2009)- لا تزال الدولة مصرة على نفس الاختيارات: “سيتمكن المغرب من الاستفادة من نقل (أو إعادة نقل) صناعة الملابس إلى البلدان النامية محلياً، نظراً لقربه من الأسواق الرئيسية، مما يمنحه ميزة من حيث تكاليف النقل. الطاقة الخضراء ميزة تنافسية للمغرب. بالإضافة إلى ذلك، فإن الشركات المغربية التي تنتج على نطاق صغير هي الأنسب للاستجابة للتجديد الشهري للمجموعات وتلبية طلبات العملاء الذين يبحثون عن التنوع”[15]. كل شيء مطروح أمام الرأسمالي المغربي، سوى المطمح القديم، الذي رفعته حكومة عبد الله إبراهيم (الاتحاد الوطني للقوات الشعبية): صناعة وطنية مستقلة.

تأويلات مضلِّلة

بالنسبة للعديدين فإن وزن القطاع غير المهيكَل في قطاع النسيج، وغيره من قطاعات الاقتصاد، هو المعيق الأكبر لتطور هذه الصناعة. فقد خلصت دراسة صادرة عن الاتحاد العام لمقاولات المغرب إلى أن “أكثر من 50% من نشاط قطاع النسيج بالمغرب يتم في إطار الاقتصاد غير المهيكل، وهو ما يعكس ضعفا في قدرة الشركات المحلية على المنافسة”[16].

لكن هذا خلط للعِلة والنتيجة. فتفشي النشاطات غير النظامية تعبير عن فشل التصنيع المغربي وضعف الرأسمال الخاص المغربي وليس العكس. كما أن الحديث عن قطاع غير مهيكل بشكل عام، يخفي في طياته أنشطةً تقوم به مقاولات القطاع المهيكَل ذاته، وهذا ما أقرته وثيقة صادرة عن المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي سنة 2012، مشيرة إلى “أشكال الاقتصاد غير المنظَّم… من قبيل الأنشطة الاقتصادية المستترة التي تمارسها مقاولات مهيكلَة (التصريح الناقص برقم المعاملات وبعدد الأجراء… إلخ)”[17]. كما أن مقاولات القطاع المهيكَل تفضل تحويل بعض أنشطتها إلى القطاع غير المهيكَل بحثا عن تكاليف إنتاج أدنى: “إن التداخل القائم بين القطاع غير المنظَّم والقطاع الخاص والقطاع العمومي على مستوى سلسلة القيمة، يُعقِّد من عملية الحد من حجم منظومة الاقتصاد غير المنظَّم: حيث تتزود الوحدات الإنتاجية غير المنظَّمة من مقاولات القطاع الخاص المنظَّمة بنسبة %18.2، دون إغفال الأنشطة والمعاملات المستترة غير المصرَّح بها التي يقوم بها أرباب بعض شركات المناوَلة في إطار الطلبيات العمومية”[18].

كما يُعتبَر الاقتصاد غير المنظَم ضروريا لدولة تبحث دوما عن الاستقرار السياسي والسلم الاجتماعي، وتعتبرهما بمثابة “رأسمال لامادي” لا غنى عنه لإغراء الاستثمارات الأجنبية والولوج بسهولة إلى سوق التمويل الدولية. في وثيقة المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، ورد أن “تغاضي الدولة عن أنشطة الاقتصاد غير المنظَّم” يفسَّر بـ”غياب ما يكفي من البدائل الناجعة” و”توخيا لسلم اجتماعي يظل هشا رغم ذلك”، وكل هذا يُعزى- حسب نفس الوثيقة- إلى عوامل من ضمنها “تراجع دور الدولة في بعض الخدمات الاجتماعية…”.

دعم عمومي كثيف…

منذ ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، كانت المالية العمومية وإجراءات الدعم العمومي، عكاز إنماء قطاع الصناعات الخفيفة، وضمنها النسيج. وكان الرأسمال المحلي المغربي شبيها بجنين وُضع في بيت زجاجي لحمايته من التأثيرات الخارجية (المنافسة الأجنبية). ولكن بعد أن شبَّ الطفل ووقف على قدميه، فضَّل التكيف مع تلك التأثيرات الخارجية وأصبح مجرد وكيل للرأسمال الأجنبي (عبر المقاولة من باطن، والإنتاج للتصدير إلى السوق الأوروبية، واستيراد المواد الأولية والسلع الوسيطة)، طبعا دون أن يتخلى عن “البيت الزجاجي” الذي تمثله الدولة ودعمها العمومي. فلا يزال الاستثمار الخاص في قطاع النسيج- كغيره في جميع القطاعات- يحلب من بقرة الدعم العمومي، رغم كل الزعيق حول الدولة قليلة التكاليف والدولة غير التدخلية، التي نادت بها العقيدة النيوليبرالية منذ عقود.

في جواب لرئيس الحكومة، سعد الدين العثماني، بمجلس النواب (30 ديسمبر 2019)، على سؤال حول “الاستراتيجيات القطاعية في مجال التصنيع”، عدَّدَ التحفيزات التي وُجهت لقطاع النسيج، ومنها:

* دعم  الاستثمار الصناعي: %25 للعامين الأولين، و%20 في الثلاث سنوات الموالية؛

* دعم الابتكار والإبداع: تمويل %50 من تكاليف الابتكار والإبداع بالنسبة لمشاريع القاطرات المنجزة في إطار منظومات النسيج بصفة عامة، و%80 بالنسبة لمشاريع القاطرات المنجوة في إطار منظومة النسيج ذي الاستعمال التقني؛

* دعم الخبرة التقنية: %70 مموَّلة في حدود مليوني درهم؛

* دعم مخصَّص لشبكات التوزيع يصل إلى %7 من مبلغ الاستثمارات في ما يخص الموزعين الصناعيين للماركات الوطنية.

… وحصلة هزيلة

رغم الدعم العمومي واعتبار النسيج من “المهن العالمية بالمغرب” التي تحظى بالأولوية، فإن الحصيلة هزيلة. حسب الوثيقة الصادرة عن المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية (سبتمبر 2014)، بلغ متوسط معدل النمو في القيمة المضافة المسجلة خلال الفترة 1998-2011 في صناعة المنسوجات والملابس +15.4%. ولا ينبغي أن يحجب هذا المعدل حقيقة أن القيمة المضافة في هذا القطاع انخفضت من 18.8% في عام 1998 إلى 8.9% في عام 2011، مما أدى إلى انخفاض حصة قطاع المنسوجات من القيمة المضافة الصناعية الإجمالية إلى 8.9% بدلاً من 10.4%[19]. وفي رؤية استرجاعية أقرت الوثيقة: “سجلت صناعة المنسوجات والملابس منذ الاستقلال وحتى عام 1998 أفضل أداء من حيث معدل النمو في الاستثمار الصناعي بنسبة +10.8% مقابل +8.1% للصناعات الأخرى”، وهو دليل على أن سياسة الانفتاح الاقتصادي، التي لا تزال عماد استراتيجية الدولة، هي السبب وراء تراجع القطاع.

وفي الوثيقة الصادرة عن نفس المعهد (أكتوبر 2023)، تشخيصٌ أكثر تشاؤما من سابقتها (الصادرة في سبتمبر 2014)، إذ وصفت غالبية شركات قطاع النسيج كالتالي: “الشركات هي شركات صغيرة ومتوسطة الحجم (تضم أقل من 50 موظفًا). وتعمل هذه الشركات على أساس التعاقد من الباطن، وهو أمر غير مربح للغاية، وهي معرضة بشكل كبير للمنافسة من المنتجين في البلدان الآسيوية الناشئة”. وحسب مقال منشور على موقع maroc-hebdo: “إن صناعة النسيج تشهد بداية سيئة للغاية في عام 2024. هذه ملاحظة أبداها العديد من المهنيين، الذين شهدوا بالفعل عامًا أسوأ في عام 2023، حيث كان النشاط التجاري في حالة ركود”[20].

وفي مجال استقطاب الاستثمار الأجنبي، ورغم كل المغريات، حذرت وثيقة المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية (سبتمبر 2014) من أن “المغرب أصبح أقل جاذبية للاستثمار الأجنبي من الدول الأعضاء الجدد في الاتحاد الأوروبي ورومانيا والصين”.

وإذا أخذنا في الاعتبار أن قطاع النسيج، من أكبر القطاعات المُحدِثة لمناصب الشغل، بـ%22 من الوظائف على مستوى البلاد، حسب أرقام وزارة الصناعة لسنة 2021، وتشكل النساء 60% من القوى العاملة، والشباب 56%، وأكثر من 62% من غير الخريجين، فإن أرباح رأسماليي القطاع لن تتأتى إلا باعتصار هذه اليد العاملة، التي تتيح لهم مدونة الشغل سهولة التخلص منها، وأشكالا عديدة من التشغيل المرن والهش.

رخص اليد العاملة وفرط استغلالها هما عِماد القدرة التنافسية الرئيسية لشركات النسيج بالمغرب، وهي سر “قدرة القطاع الكبيرة على التأقلم وتجاوز الأزمات”، كما يَرِدً دوما في الوثائق الرسمية للدولة، وتُغْني الرأسمال المغربي عن الاستثمار في المزايا التنافسية الأخرى، فالقطاع يعاني، حسب وثيقة المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية (أكتوبر 2023) من “انخفاض مستوى الابتكار، والافتقار إلى العلامات التجارية الوطنية التنافسية والافتقار إلى الدافع لريادة الأعمال”. شعار أرباب عمل النسيج إذن هو: اعصر عمالك وعاملاتك، وارمي بهم- هن إلى الشارع ما أن تلوح أول بادرة أزمة في الأفق.

التضامن العمالي في وجه وحدة الرأسماليين ودولتهم

استراتيجية الرأسمال المغربي ودولته واضحة للعيان: الاستمرار في نفس الخيارات الاستراتيجية السابقة، أي نموذج نمو قائم على التصدير، التعاقد الدولي من باطن… إلخ. تخدم هذه الخيارات الرأسمال الكبير المغربي والمورِّدين وكلاء العلامات التجارية العالمية الكبيرة، أما المقاولات الصغرى فإنها تفضل الاشتغال في القطاع غير المهيكَل، حيث جحيم الاستغلال الرأسمالي للعمال والعاملات، ورميهم- هن إلى جهنم التسريح والبطالة، تحت أنظار الدولة. فالبطالة والتسريح وما ينجم عنهما من ضغوط على القسم العامل من الطبقة العاملة وضغط على أجورها وحقوقها الاجتماعية، هما القدرة التنافسية لهذا القسم من أرباب العمل.

ليس من مصلحة الرأسمال الكبير والمورِّدين الكبار أيُّ تصنيع فعلي للقطاع، ولكل الاقتصاد، فهم يستقون أرباحهم من الشراكة مع الرأسمال الأجنبي وتسويق الماركات العالمية. ما يشكل جوهر استراتيجية الدولة حاليا (واستراتيجية الرأسمال الكبير) هو تنويع أولئك الشركاء الدوليين، وهنا يأتي دور الصين مؤخرا. تكرر الدولة والرأسماليين المغاربة نفس الأحلام القديمة حول إسهام الرأسمال الأجنبي في تطوير الصناعة المحلية، ومحلَّ الرأسمال الأوروبي، جاء دور الصيني، حيث صرح أنس الأنصاري، رئيس الجمعية المغربية لصناعة النسيج والألبسة: “الاستثمارات الصينية في قطاع النسيج في المغرب لا تقتصر فقط على إنشاء مصانع جديدة، بل تشمل أيضا نقل التكنولوجيا وتطوير الكفاءات المحلية. الصين تعتبر واحدة من أكبر منتجي المواد الأولية في العالم، وإذا تمكنا من تصنيع هذه المواد الأولية في المغرب، فإننا سنحقق قفزة نوعية في تطوير القطاع”. أضغاث أحلام![21]

ليس للطبقة العاملة المغربية في وجه وحدة الرأسماليين ودولتهم، سوى تضامنها الطبقي، وهو ما نراه مفتقَدا لحدود الساعة، ولكننا لا نقطع الرجاء في برزوه مستقبلا. ويعزى واقع نقص التضامن العمالي حاليا، إلى أن كل قطاع منكفئ على نفسه، حاملٍ فقط لمطالبه القطاعية، دون اهتمام بمجمل سياسة الدولة واستراتيجية الرأسمال (المحلي منه والأجنبي).

تجري حاليا نقاشات كبيرة على المستوى العالمي حول السياسات الصناعية الجديدة، والسياسات الصناعية الخضراء، وما تستببعه من تأثيرات على الحقوق الاجتماعية والأجرية للعمال وضمانات التوظيف القار، فضلا عن التاثيرات البيئية لتلك السياسات. لن نستطيع نحن عمال وعاملات المغرب ضمان عيش لائق بالكائنات البشرية، إلا بانخراطنا في هذا النقاش، ويستدعي هذا توسيعَ المنظور والانطلاق من أرضية الحقوق المهنية والقطاعية لتجاوزها إلى فضاء السياسة الأرحب، السياسة التي تخدم الاقتصاد، وحاليا السياسةُ القائمة تخدم اقتصاد أرباب العمال، والواجب هو الدفاع عن سياسة تخدم اقتصاد أغلبية الشعب من عمال- ات وصغار منتجي- ات القرى والمدن، والشباب وضحايا البطالة والنساء والمهاجرين- ات… إلخ.

بقلم: علي أموزاي


[1]– SEPTEMBRE 2014, M. Azzedine GHOUFRANE, M. Nabil BOUBRAHIMI et M. Adil DIANI «INDUSTRIALISATION ET COMPETITIVITE GLOBALEDU MAROC», L’Institut Royal des Etudes Stratégiques (IRES). https://www.ires.ma/fr/publications/rapports-thematiques/industrialisation-et-competitivite-globale-du-maroc

[2]– IBID.

[3]– ألبير عياش (أبريل 1956)، “المغرب والاستعمار، حصيلة السيطرة الفرنسية”، ترجمة عبد القادر الشاوي، نور الدين السعودي، مراجعة وتقديم: إدريس بن سعيد، عبد الأحد السبتي، دار الخطابي للطباعة والنشر، المغرب، الطبعة الأولى، ص 266- 267.

[4]– أطاك المغرب (09-09-2021)، “مذكرة عامة حول تقرير “اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي”من أجل مغرب آخر ممكن، واقتصاد يقطع مع النموذج الرأسمالي النيوليبرالي”، https://attacmaroc.org/مذكرة-عامة-حول-تقرير-اللجنة-الخاصة-بال.

[5]– Alain Piveteau, Khadija Askour et Hanane Touzani, «Le Maroc industriel dans la mondialisation : Processus, parcours et acteurs Alain Piveto», https://horizon.documentation.ird.fr/exl-doc/pleins_textes/divers20-12/010080697.pdf.

[6]– IBID.

[7]– SEPTEMBRE 2014, M. Azzedine GHOUFRANE, M. Nabil BOUBRAHIMI et M. Adil DIANI «INDUSTRIALISATION ET COMPETITIVITE GLOBALEDU MAROC», L’Institut Royal des Etudes Stratégiques (IRES), https://www.ires.ma/fr/publications/rapports-thematiques/industrialisation-et-competitivite-globale-du-maroc.

[8]– IBID.

[9]– IBID.

[10]– للتفصيل اطلاع على كتيب أطاك المغرب على الموقع: https://attacmaroc.org/كتاب-اتفاقيات-التبادل-الحر-صيغة-pdf.

[11]– SEPTEMBRE 2014, M. Azzedine GHOUFRANE, M. Nabil BOUBRAHIMI et M. Adil DIANI «INDUSTRIALISATION ET COMPETITIVITE GLOBALEDU MAROC», L’Institut Royal des Etudes Stratégiques (IRES), https://www.ires.ma/fr/publications/rapports-thematiques/industrialisation-et-competitivite-globale-du-maroc..

[12]– l’Institut Royal des Etudes Stratégiques/ IRES (Octobre 2023), «L’INDUSTRIE DU FUTUR OU X.0, Version publique», https://www.ires.ma/fr/publications/actes-des-seminaires/lindustrie-du-futur-ou-x0.

[13]– l’Institut Royal des Etudes Stratégiques/ IRES (Octobre 2023), «L’INDUSTRIE DU FUTUR OU X.0, Version publique», https://www.ires.ma/fr/publications/actes-des-seminaires/lindustrie-du-futur-ou-x0.

[14]– IBID0

[15]– l’Institut Royal des Etudes Stratégiques/ IRES (Octobre 2023), «L’INDUSTRIE DU FUTUR OU X.0, Version publique», https://www.ires.ma/fr/publications/actes-des-seminaires/lindustrie-du-futur-ou-x0.

[16]– Aissa Amourag  (2601-2024), «Le secteur du textile en crise : Le spectre des fermetures plane sur les grandes marques», https://www.maroc-hebdo.com/article/secteur-textile-crise-spectre-fermetures-plane-grandes-marques.

[17] – المرجع نفسه.

[18]– المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي (2021)، “مقاربة مندمجة للحد من حجم الاقتصاد غير المنظَّم”، https://www.cese.ma/ar/docs/une-approche-integree-pour-resorber-leconomie-informelle-au-maroc-2.

[19]– SEPTEMBRE 2014, M. Azzedine GHOUFRANE, M. Nabil BOUBRAHIMI et M. Adil DIANI «INDUSTRIALISATION ET COMPETITIVITE GLOBALEDU MAROC», L’Institut Royal des Etudes Stratégiques (IRES), https://www.ires.ma/fr/publications/rapports-thematiques/industrialisation-et-competitivite-globale-du-maroc.

[20]– Aissa Amourag  (2601-2024), «Le secteur du textile en crise : Le spectre des fermetures plane sur les grandes marques», https://www.maroc-hebdo.com/article/secteur-textile-crise-spectre-fermetures-plane-grandes-marques.

[21]– حامد الموصلي (21-04-2025)، “وهم” نقل التكنولوجيا، https://tamodeer.substack.com/p/ade.

Exit mobile version