مرت أربعون يوماً على مقتل شباب القليعة برصاص الدرك، فيما تواصل الدولة اليوم حملتها الواسعة لمحاكمة شباب جيل زيد في مختلف المدن، بأحكام جاهزة هدفها إسكات جيل بدأ يرفع رأسه مطالباً بحقوقه.
أربعينية تزامنت مع وقفة احتجاجية نظمتها لجنة عائلات الشهداء والمعتقلين والمصابين في أحداث القليعة يوم السبت 15 نونبر 2025، أمام مخفر الدرك بالقليعة، حيث رفعت الأسر صرختها من جديد مطالبة بالحقيقة والعدالة.
أربعينية لا تقتصر على إحياء الذكرى، بل لحظة لتسمية الأمور كما هي: ما وقع ليس “انفلاتاً” ولا “خطأً فردياً” ولا “استعمالاً مفرطاً للقوة”، بل جريمة دولة بأجهزتها، جريمة جاءت في سياق سياسي يعرف صعود موجة احتجاجات شعبية واسعة، قابلتها السلطة بتشديد القبضة الأمنية وبمحاولات استباق أي نهوض نضالي عبر المحاكمات والتضييق وترويع الساكنة.
القليعة: تهميش ممنهج يقابله غضب مشروع
القليعة ليست مدينة عادية، هي مدينة برزخية بين الحي الصناعي لأيت ملول وضيعات اشتوكة، حاضنة تاريخية للطبقة العاملة الصناعية والزراعية. منذ عقود، كانت أفواج العمال تفد إليها بحثاً عن سكن في المتناول، فكبرت المدينة بدون تخطيط، وبدون بنية تحتية، وبدون مؤسسات، وبدون حدّ أدنى من الخدمات العمومية.
القليعة ليست بالنسبة لي مجرد “موضوع للتحليل” أو “حالة اجتماعية”، بل هي المنطقة التي عشت فيها ودرست فيها. هي الذاكرة التي تربيت داخلها، وهي المكان الذي شكّل وعيي الاجتماعي والسياسي منذ سنوات مبكرة.
ولذلك حين أكتب عن القليعة، فإنني لا أنقل رواية من الخارج، بل أدوّن شهادة ابنة المنطقة التي عاشت يومياً تفاصيل التهميش، وشاهدت بأمّ عينها كيف تُركت أجيال كاملة تواجه مصيرها منفردة.
القليعة، وفق تقارير رسمية للمندوبية السامية للتخطيط ووزارة الداخلية، تُصنّف ضمن أعلى مناطق الهشاشة في جهة سوس ماسة: بطالة مرتفعة، فقر متعدد الأبعاد، سكن غير لائق، اكتظاظ سكاني، نقص في البنى الصحية والتعليمية، غياب الفضاءات العامة، وضعف شديد في البنية التحتية.
لكن ما تنقله الأرقام لا يعكس سوى جزء من الحقيقة؛ أما الحقيقة الكاملة فقد عاشها سكان القليعة في أجسادهم، في حياتهم اليومية، وفي عسرتهم المتزايدة.
لسنوات طويلة (منذ 2005)، كان السكان يطالبون بإخضاع المنطقة لنفوذ الأمن الوطني بدل الدرك الملكي، لأن مخفراً صغيراً ببضع عناصر لم يكن أبداً قادراً على التعامل مع منطقة مركّبة اجتماعياً واقتصادياً وتعاني من انتشار الجريمة. كانت القليعة أيضاً سوقاً ضخمة لتجارة المخدرات، وكانت شوارعها مسرحاً لصراعات كبريات شبكات الترويج التي خلّفت قتلى في مشاهد أقرب إلى أفلام هوليوود، كل ذلك تحت أنظار السلطات التي لا تتدخل إلا متأخرة. بل كانت تُوصَف في تقارير الدولة ومؤسساتها بـ“البؤرة السوداء”، لكن الدولة لم تتجاوز التوصيف، وتركت المنطقة تتخبط في الفقر والهشاشة والجريمة.
في مدينة بهذا القدر من الهشاشة، كان يكفي أن يخرج الشباب للاحتجاج على البطالة ورداءة الخدمات وغياب الحياة الكريمة حتى تتحول المطالب إلى خطر في نظر الدولة، خطر يستدعي التدخل بالرصاص. وهكذا كان الرد.
من هم شهداء القليعة؟
شهداء القليعة لم يموتوا في “مواجهات”، ولم يشكّلوا خطراً على أحد. لم يكونوا مسلحين ولا مخربين، ولا “مندسين” كما حاولت أبواق الدولة تصويرهم. كانوا شباباً يعيشون الفقر ذاته الذي يعيشه آلاف غيرهم، ويحملون الأحلام الصغيرة ذاتها التي يقتلها التهميش كل يوم.
ومن بعيد، بعيداً عن المخفر نفسه، صوّبت بنادق الدرك نحو أجسادهم الهزيلة من الخلف. سقط عبد الحكيم الدرفيضي، عامل البناء المعيل لأسرته، مغدوراً، وسقط محمد الرحالي الحلاق الشاب، وسقط عبد الصمد أوبلا، خريج معهد السينما.
ثلاث حيوات قطعتها الرصاصات نفسها التي تُطلق عادة لمواجهة الجريمة شديدة الخطورة.
لكن الدولة اختارت هذه المرة استخدامها ضد شباب عزل، أبناء منطقة مهمّشة خرجوا ليقولوا إن واقعهم لم يعد يُطاق.
القمع ليس خطأً… بل آلية ثابتة لحماية مصالح من هم في الأعلى
لم تكن الدولة يوماً جهازاً محايداً. فهي أداة في يد الطبقات السائدة لحماية مصالحها الاقتصادية والسياسية. الدولة في المغرب، عبر أجهزتها الأمنية والقضائية، لا تدافع عن “القانون” ولا عن “الاستقرار” كما تزعم، بل عن مصالح كبار الرأسماليين المحليين والأجانب، وعن استمرار نموذج اقتصادي نيوليبرالي مبني على الاستغلال.
في القليعة وغيرها، لا يزال الشباب يُساقون إلى المحاكم كما تُساق الجثث إلى المشرحة. أحكام قاسية، تهم جاهزة، اعتقالات بالجملة. بعض المعتقلين ينتظرون محاكمتهم في حالة اعتقال، مثل المناضل الشاب سفيان كرت ابن مدينة القليعة، المعروف بنضاله الطويل ضد التهميش.
هذا المشهد ليس جديداً. إنه استمرار لنهج قديم: من إفني إلى حركة 20 فبراير، مروراً بجريمة طحن محسن فكري في الحسيمة والقمع الذي طال حراك الريف، وصولاً إلى جرادة وحراك جيل زيد. وقائع العنف هذه ليست متفرقة أو معزولة؛ إنها بنية قمعية ثابتة، وظيفة سياسية واقتصادية للدولة. وكلما اشتدت الأزمة الاجتماعية، ارتفع منسوب هذا العنف.
لأجل الحقيقة… لأجل العدالة… لأجل مستقبل لا يُقتل فيه الشباب
الأربعينية ليست طقساً، بل فعل مقاومة. حضور العائلات والشباب والمناضلين والمناضلات والمتضامنين والمتضامنات أمام مركز الدرك في القليعة يوم السبت 15 نونبر 2025 خطوة شجاعة في وجه مناخ التخويف. إنها رسالة واضحة: لن يُدفَن الضحايا بصمت، ولن تُطوى الجريمة دون حساب.
العائلات تطالب بالحقيقة والعدالة والإنصاف. الحقيقة لفضح الروايات الرسمية، والعدالة لمحاسبة المسؤولين عن إطلاق النار، والإنصاف لرد الاعتبار للشهداء وعائلاتهم.
أربعينية شهداء القليعة لا يجب أن تكون حدثاً محلياً، بل محطة في معركة شعبية أكبر:
معركة من أجل وقف هذا المسار الدموي الذي يحصد أبناء الفقراء كلما رفعوا رؤوسهم.
معركة من أجل كشف الحقيقة كاملة، وتقديم المتورطين للمحاسبة، وحماية الحق في الاحتجاج، وإطلاق سراح كل معتقلي جيل زيد.
نضال القليعة جزء من نضال شعب كامل
شهداء القليعة هم أبناء شعب يُسحق في الشوارع والمحاكم والمستشفيات. ومعركة العائلات ليست معركة محلية، بل معركة وطن كامل يتعرض للقمع في كل مدينة وقرية. ربط نضال القليعة بالنضالات الأخرى ضرورة تاريخية، فالقمع واحد، والجلاد واحد، والضحايا من الفئات الشعبية نفسها.
جيل زيد اليوم هو التعبير الأحدث عن هذا السخط الطبقي المتراكم. ومن واجب الحركات المناضلة أن تبني جسور التضامن، وأن تعمل على تنظيم الدعم وتوحيد المبادرات، وهو ما شدّد عليه بيان جمعية أطاك المغرب بهذا الصدد.
إن مواجهة آلة القمع لن تتحقق عبر الإدانة فقط، بل عبر بناء قوة اجتماعية قادرة على ردع الدولة، وحماية المتظاهرين، وفرض الحقوق الديمقراطية والاقتصادية. تلك القوة لن تأتي إلا من الطبقة العاملة، والنساء الكادحات، والشباب العاطل، وسكان الأحياء المهمشة، وكل المتضررين من النموذج النيوليبرالي القائم.
القليعة ليست حادثة عابرة. هي درس مرّ، وجرس إنذار، ولحظة مفصلية يجب ألا تمر دون أن تتحول إلى محطة في مسار بناء وعي جماعي جديد وطاقات نضالية قادرة على فرض التغيير.
الحرية الفورية لكل معتقلي ومعتقلات جيل زيد.
الحقيقة والعدالة لشهداء القليعة.
بقلم: أسماء المنضور،عضوة أطاك المغرب

