الخوصصةالمخططات الليبراليةملفات دراسية

استقلالية البنك المركزي ونظام الصرف المرن، مخططات صندوق النقد الدولي لوضع البلد في قلب العاصفة : الجزء الثالث

يعتزم الحاكمون بالمغرب البدء في سيرورة التحول إلى نظام الصرف المرن، ابتداء من النصف الثاني من السنة الحالية، وهي السيرورة التي تعتبر التتمة المنطقية لما تم الشروع فيه منذ زمن بعيد من سياسات نيولبرالية، بل تشكل احدى ذراها الأكثر خطورة.

لمتابعة هذه السيرورة، ينشر موقع أطاك المغرب، على حلقات، دراسة للرفيق مرجاني عبد القادر حول الموضوع لأجل فهم ما يجري وأبعاده وانعكاساته على مستقبل البلد وأوضاع كادحيه.

يتناول الجزء الثالث من الدراسة سياقات التخلي عن نظام الصرف الثابث ارتباطا بالتحول المعولم نحو تبني السياسات الليبرالية، واللجوء لتبني نظام الصرف المرن وصولا إلى التعويم التام، والاثار الاقتصادية لذلك لجهة ارتفاع تكاليف الاستثمار وتفاقم المديونية والمزيد من تهاوي شروط بيع قوة العمل وبالتالي انحدار أوضاع الطبقة العاملة…

——————————————————–

نظام الصرف المرن: ضرورة لفتح الباب أمام الرساميل الأجنبية وسياسة أخرى لدعم المضاربة

 

  • نظام سعر الصرف المرن والسياسة النقدية في ظل تحرير سوق الرساميل:

 

اعتمد النظام النقدي الدولي، بعد مؤتمر بروتن وودز سنة 1944، نظام الصرف الثابت، حيث شكل الدولار الذي كان مرتبطا بالذهب حسب قيمة تعادلية ثابتة، المحور الأساسي للنظام. فالدولار هو العملة الوحيدة القابلة للتحويل إلى ذهب وجميع العملات الأخرى لها سعر صرف ثابت اتجاهه. في هذه المرحلة، وُضعت قيود على تنقل الرساميل وكان صندوق النقد الدولي المسؤول عن ضبط النظام.

عند انهيار هذا النظام سنة 1971، اعتمدت عدة دول نظام الصرف المرن رغم تأسيس بعضها، لسنوات معينة، تكتلات تحد من تقلبات سعر الصرف.

بعد سنة 1980، تعددت أنظمة الصرف، من الأكثر تباثا إلى التعويم “الخالص”. إبان هذه الفترة، كانت السياسات النقدية تتجه إلى اتخاذ استقرار الأسعار كهدف لها لتفادي ارتفاع معدل التضخم ولتفادي توقع هذا الارتفاع من طرف الفاعلين الاقتصاديين. لتحقيق هذا الهدف، تم اعتماد ما يسمى “سياسة الركائز الإسمية” التي تعني تثبيت متغير اقتصادي، كمعدل الصرف، للوصول إلى هدف وسيط – مثلا، الإعلان مسبقا عن قاعدة لاحتساب سعر الصرف – يضمن استقرار الأسعار على المدى الطويل. فأرباب الشركات يُدمجون توقعاتهم لمستوى الأسعار عند وضع استراتيجيتهم الاستثمارية.

يؤثر هبوط سعر صرف العملة المحلية على مستوى الأسعار حيث ينخفض الطلب على السلع المحلية ويُقلص من هامش ربح المقاولة. كما يؤدي هذا الهبوط إلى ارتفاع أسعار المواد الأولية المستوردة مما يرفع من كلفة الإنتاج. لتطمين الأسواق وتفادي صعود منحنى التضخم، عملت البنوك المركزية على اعتماد قاعدة سعر الصرف الثابت قصد التأثير على التوقعات التضخمية وإتاحة الفرصة للرأسمال من أجل تحديد أسعار البيع والأجور بما يتوافق وتوقعاته للربح.

مع بداية سنوات التسعينيات التي شهدت توسع الأسواق المالية وتنامي تدفقات رؤوس الأموال، أصبحت ظروف الإبقاء على نظام سعر الصرف الثابت أكثر صعوبة. فالبلدان التي تعتمد هذا النظام “كمصدر استقرار اسمي” للسياسة النقدية أضحت عرضة لضغط متزايد قصد المرور إلى نظام الصرف المعَوم.

التخلي عن سعر الصرف الثابت ك “ركيزة إسمية” وصعوبة التحكم في كتلة النقد كنتيجة لتنامي مستمر لمنتجات مالية جديدة، دفع بالبنوك المركزية إلى استهداف التضخم الذي يُلزمها بتحقيق معدل تضخم منخفض عبر استخدام الأدوات النقدية المتوفرة لها. فاتجاه خيارات حكام عدة بلدان نحو فتح حساب رأس المال والسماح للرساميل الأجنبية بالتدفق دون قيود، كانت نتائجه التخلي عن سعر الصرف الثابت والاتجاه إلى استقلالية السياسة النقدية. في هذا السياق، يؤكد صندوق النقد الدولي أن الإطار النقدي المغربي يجب أن يتطور بشكل يتيح التحول إلى سعر صرف أكثر مرونة. فاعتماد ركيزة إسمية، مثلا على شكل نظام لاستهداف التضخم مكان سعر الصرف، من شأنه أن يضمن الاستقلال النقدي ويساعد على الحفاظ على جرعة إجراءات أكثر ملاءمة، مرافقة بحساب رأس المال أكثر انفتاحا[i] .

وعليه، إن اختار بلد نامي تطبيق السياسات الليبرالية للمؤسسات والمنظمات العالمية خدمة لمصالح الرأسمال الأجنبي، وجب عليه تحرير عملته. شكلت عدة دراسات لاقتصاديين ليبراليين رافضين لعرقلة تنقل الرساميل، السند لإثبات حتمية تعويم العملة. كانت أعمال روبرت مندل أهمها، هذا الاقتصادي اشتغل عند صندوق النقد الدولي بين سنة 1961 و1966. فبالنسبة له، يستحيل على بلد أن يسمح بتدفق الرساميل مع إبقائه على نظام سعر صرف ثابت وسياسة نقدية تخدم أهدافه الداخلية (الثلاثية المستحيلة).

تغظ هذه الرؤية الليبرالية الطرف عن طبيعة الرساميل المتدفقة نحو البلدان النامية التي لا هدف لها سوى المضاربة لجني أرباح على المدى القصير، فهي رساميل تبحث عن مردودية عالية، سرعان ما تتبخر عند ظهور أية فرصة أخرى أفضل في بلد اخر. تكون هذه التدفقات مرتبطة أكثر بطبيعة المحفظات الاستثمارية للمستثمرين الأجانب وبالسياسات النقدية للبلدان المتقدمة، كما أن عملات البلدان النامية سرعان ما يتم التخلص منها للبحث عن العملات القوية عند ظهور شكوك حول أزمة تلوح في الأفق. إن تبعية اقتصاديات هذه البلدان لمراكز قرار الرأسمال العالمي وخضوعها للسوق العالمية ودورها في قسمة العمل الدولية، المفروض عليها من طرف المؤسسات المالية العالمية، يجعلها ساحة لاغتنام الفرص من طرف الرساميل الطائرة.

تتسبب الطبيعة الغير مستقرة لهذه الرساميل في تغيرات حادة وغير متوقعة لسعر الصرف. ستقضي حدة التذبذبات على آمال السياسة النقدية في تحقيق معدل التضخم المستهدف سلفا مما يزيد من حدة تفاقم الأزمة. في بلد خاضع لتقلبات السوق الدولية، تؤدي المغادرة المكثفة للرساميل إلى تدهور سعر الصرف وارتفاع الأسعار نتيجة ارتفاع سعر البضائع ومدخلات الإنتاج المستوردة.

عند توقع أزمة صرف، سيسعى المتعاملون مع البنوك، تحسبا لانخفاض قيمة العملة المحلية، للتخلص من هذه الأخيرة واقتناء العملات الأجنبية، كما سيعمل زبائنها على سحب إيداعاتهم من العملة القوية، فتنتج عن ذلك هستيريا سحب الودائع من البنوك مما سيقهقر من قيمة العملة المحلية. يمكن للبنك المركزي أن يبيع احتياطاته من العملات الأجنبية لشراء العملة المحلية وعندما يتضح أنه لا يملك الاحتياطي الكافي وأنه يتعذر الالتزام بتمويل المستوردات والدين، تتفجر الأزمة.

سيضعف تدهور قيمة العملة وضعية البنوك والشركات التي لها خصوم كبيرة بالعملة الأجنبية ويضعف قدرة عملائها المستدينين بالعملة الأجنبية على الوفاء بالتزاماتهم. فإذا قام البنك المركزي بمحاولة انقاذ بعض البنوك من خلال تقديم مزيد من القروض، ستتفاقم مديونية هذه البنوك وتصبح على حافة الإفلاس.

لتفادي مثل هذا الوضع، سيعمل البنك المركزي على رفع سعر الفائدة لتثبيط هروب رؤوس الأموال والحد من تدهور العملة المحلية وللحد من التضخم. سيؤدي هذا الإجراء، أولا، إلى ارتفاع تكلفة الاستثمار نظرا لارتفاع كلفة القروض، وسيُعوض أرباب المقاولات عن ذلك بالضغط على الأجور والزيادة في ساعات العمل، وسيساعدهم في ذلك المرونة التي هيأتها قوانين الشغل، أو سيعملون على الرفع من أسعار البيع مما سيبطل مفعول الرفع من سعر الفائدة، وبالتالي تفقد المقاولات تنافسيتها. وفي جميع الحالات لا مفر من الانكماش الاقتصادي.

من جانب اخر، امتناع المستثمرين عن الاقتراض، سيجعل البنوك تلتجأ إلى إقراض الدولة، بمعدلات فائدة مرتفعة، وهو ما يعني زيادة حجم الدين العام وخدمته وبالنسبة للموازنة، زيادة العجز، بسبب ارتفاع عبء خدمة هذا الدين.

في أواسط سنوات 1990، عصف تحرير تنقل الرساميل باقتصاديات عدة بلدان كالمكسيك (1994)، البلدان الأسيوية (1997)، روسيا (1998)، البرازيل وكولومبيا (1999) وتركيا (2000/2001). كانت هذه البلدان تشترك في اعتمادها أنظمة صرف وسطية، وقد تلقت ضربة قاسية بفرار مكثف للرساميل، مصحوب بنزيف في احتياطات النقد الأجنبي وبارتفاع كبير لمعدلات الفائدة مما أدى إلى إضعاف النظام البنكي وإلى ركود اقتصادي.

تستغل المؤسسات المالية العالمية كل أزمة لتمليَ مزيدا من السياسات الليبرالية، متسترة عن الخراب الذي يحدثه الرأسمال في سعيه وراء تنمية أرباحه. فقد اعتبرت أنظمة الصرف الوسطية، أي وجود هامش لتدخل السلطات النقدية في توجيه سعر الصرف، سببا مباشرا لاندلاع أزمات التسعينيات ليتم الترويج لضرورة التأسيس لأنظمة الصرف المرن حفاظا على حرية حركة الرساميل.

لم يكن بوسع اقتصاديات البلدان التي اجتاحتها الأزمة أن تبقى صامدة في وجه هجمات الرساميل بغض النظر عن شكل أنظمة الصرف التي كانت معتمدة. فالميزانية العمومية لروسيا والبرازيل كانت تعاني من عجز كبير والنظام البنكي للبلدان الأسيوية كان هشا ولا خبرة له في تدبير ودرء مخاطر الصرف.

في المقابل، كان الولوج المكثف للرساميل إلى بعض البلدان – وليس الخروج كما في الحالات السابقة – بمثابة دافع اضطراري لتحرير عملتها، كما كان عليه الحال في الشيلي (1999) وبولندا (2000).

ففي بولندا، التي كانت تتبع نظام صرف وسطي، التجأت السلطات النقدية بعد تدفق كبير للرساميل إلى التعقيم[ii] كوسيلة للحد من ارتفاع حجم النقد المحلي عند سحب العملة الأجنبية من السوق تفاديا لفائض من السيولة البنكية والذي يمكن أن يساهم في تسارع التضخم. إلا أن هذا التعقيم قد أدى إلى ارتفاع معدلات الفائدة على الأصول المقوَمة بالنقد المحلي مما أثار شهية الرساميل الأجنبية التي استمرت في التدفق (نفس الوضع شهدته جمهورية التشيك بين سنتي 1995 و1997). لم يكن من مخرج للسلطات النقدية ببولندا سوى التخلي عن هامش تحكمها في سعر الصرف وتركه للسوق، ليرتفع بعد ذلك سعر الزلوتي، مؤثِرا بشكل سلبي على تنافسية المنتجات المصنعة محليا[iii].

كل بلد يختار حكامه تبني اقتصاد السوق وسياسات فتح الأبواب أمام تدفق الرساميل، في الوقت الذي يرزح فيه البلد تحت وطأة الدائنين ويعتمد فيه الاقتصاد على صادرات ذات قيمة مضافة ضعيفة، مضطر في الأخير إلى تعويم عملته سواء مر هذا التعويم عبر بوابة أزمة نظام سعر صرف كان قائما (ثابت أو وسطي) أو عبر مراحل تمتد لسنوات. في كلتا الحالتين يتم القبول بما سيترتب عن هذا التعويم من تردي للأوضاع الاجتماعية للأجراء والفقراء والقبول بوضع غير مستقر ومهدد باستمرار بتقلبات مفاجئة وأزمات ستدفع كلفتها الشعوب.

[i] Consultations de 2013 au titre de l’article IV du statut de l’FMI, Rapport du FMI No. 14/65, Mars 2014.

[ii]-التعقيم النقدي سياسة يتبعها البنك المركزي لتلافي تأثيرات التدفقات المالية الأجنبية على عرض النقود. يؤد شراء البنك المركزي للنقد الأجنبي إلى توسع القاعدة النقدية المحلية ليتم بعد ذلك تعقيم هذه العملية عن طريق بيع البنك المركزي لأذون الخزينة لخفض المكونات المحلية للقاعدة النقدية أو رفع معدلات الاحتياطي الإلزامي. ستعيد هذه الأدوات التعقيميية القاعدة النقدية إلى مستواها الأولي.

[iii] Gharbi H., 2005 : « La gestion des taux de change dans les pays émergents. La leçon des expériences récentes », Revue de l’OFCE 95, pp279-326.

زر الذهاب إلى الأعلى