الديونملفات دراسية

مسألة الديون العمومية موكولة إلى الشعب المغربي الذي عليه أن يتعبأ من أجل فرض التشطيب عليها

مسألة الديون العمومية موكولة إلى الشعب المغربي الذي عليه أن يتعبأ من أجل فرض التشطيب عليها

 

أزيكي عمر[1]

 

مقال منشور في جريدة النهج الديمقراطي عدد 199 لفترة 16-31 يوليوز 2015.

 

تتضخم مديونية بلدنا بشكل مهول، ويتفاقم خضوعه لشروط الدائنين من مؤسسات مالية دولية وحكومات الدول العظمى. وترتبط هذه المديونية تاريخيا بتبعية الاقتصاد المغربي للقوى المُهيمنة وبأطوار اندماجه في الاقتصاد الرأسمالي العالمي. فقد أدى الغزو الإسباني في 1859-1860 إلى استنزاف الموارد المالية الهزيلة[2]، حيث ألزم المغرب بأداء ذعيرة بمبلغ 100 مليون فرنك ذهبي كي تتنازل إسبانيا على احتلالها لتطوان. واضطر إلى اقتراض عُشُرها من إنجلترا مقابل معدلات فائدة مرتفعة. واستغرق تسديد هذه الديون حوالي ربع قرن. وكان هذا في سياق الأزمة الرأسمالية العالمية 1873-96 التي أدت إلى تقليص عائدات صادرات المغرب من الحبوب والقطن أساسا بسبب انهيار الأسعار والإجراءات الحمائية الأوروبية[3]. ومن هنا تنامي التدخل الأوروبي الذي برز أكثر مع مؤتمر الجزيرة الخضراء في 1906 ثم نظام الحماية الاسبانية والفرنسية في 1912. كان السلطان عبد العزيز قد اقترض 62,5 مليون فرنك سنة 1904 وعبد الحفيظ 101 مليونا سنة 1910 من عصبة بنوك دولية. وضمنت الحماية الفرنسية قرضا بمبلغ 170 مليونا في 1914، و70 مليونا في 1916، و744 مليونا في 1920[4]. كان بنك الدولة بنك باريس والأراضي المنخفضة هو الذي يشرف على هذه العمليات لصالح كبريات الشركات الأجنبية ويفرض شروطه كما يقوم اليوم صندوق النقد الدولي والبنك العالمي بفرض رقابتهما وتطبيق إجراءاتهما لمنح القروض.

وفي سنة 1956، التزمت السلطات المغربية بتحمل أعباء جاري الدين العمومي الخارجي (1,084 مليار درهم) الذي أبرمه طيلة الفترة 1906-1956، وأداء الفوائد والعمولات[5]. وبهذا حكمت على الأجيال الحالية بتسديد ديون استعمارية ثقيلة استعملت لاستعباد شعبنا طيلة 50 عاما. ومازالت فرنسا تعد اليوم أول دائن ثنائي للمغرب بمبلغ 35 مليار درهم. أليس مشروعا إذن أن نطالب بإلغاء هذه الديون كتعويض أدنى على ما ألحقته فرنسا من نهب لثرواتنا وتدمير بيئتنا؟ ولن تكون هذه سوى خطوة أولى في انتظار أن يحدد تدقيق الدين العمومي الخسائر الحقيقية للفترة الاستعمارية. وقد نسرد هنا مثال إيطاليا التي التزمت سنة 2008 بدفع 5 مليار يورو (حوالي 50 مليار درهم!) كتعويض عن الأضرار التي خلفها استعمارها لليبيا من 1911 إلى 1942[6].

ومباشرة بعد الاستقلال الشكلي، سيشهد المغرب أزمة مالية خانقة. ومن هنا بداية تدخل البنك العالمي، عبر سلسلة من القروض، في توجيه السياسة الاقتصادية للبلد بالارتكاز أساسا على تصدير بعض المنتجات الأولية واستيراد المواد المصنعة. كان المغرب يحصل على القروض والمساعدات المالية في الوقت الذي كان يصفى فيه النظام رموز المعارضة الراديكالية وجيش التحرير، وفرض حالة الاستثناء التي دامت عمليا حتى نهاية التسعينات. ولابد من الإشارة هنا إلى الانحياز التاريخي لكل من البنك العالمي وصندوق النقد الدولي للأنظمة الديكتاتورية ودعمها ماليا في عديد من البلدان كالشيلي، والزائير، ورومانيا، وإندونيسيا، وتونس، ومصر، إلخ[7].  مجموع هذه الديون التي منحت لأنظمة ديكتاتورية لاستعباد شعوبها تسمى ديونا كريهة. يقول الأستاذ نجيب أقصبي: >>إن جزءا كبيرا من الديون (العمومية المغربية) الحالية أبرمت خلال “سنوات الرصاص” ويمكن اعتبارها “ديونا كريهة”. يجب أن تكون محط تدقيق شعبي لتحديد شروط إبرامها ولماذا رُصدت (من قام بإبرامها؟ وفي ماذا استعملت؟ ومن استفاد منها؟). بمعنى يلزمها نوع من “لجنة الإنصاف والحقيقة والمصالحة” خاصة بالديون<<[8]. إن تدقيق الدين العمومي هو الذي سيمكننا من حصر المبالغ المرتبطة بهذه الفترة (1961-1999) وهي تقدر بمبلغ 19 مليار دولار (حوالي 160 مليار درهم)، والمطالبة بإلغاء ما بذمتنا منها حاليا. وقد نستأنس بمبادرات حالية بكل من تونس ومصر من أجل تدقيق الدين العمومي بهدف إلغاء الجزء الكريه المرتبط بحكم الديكتاتورين بنعلي ومبارك بعد أن فتحت الثورات إمكانية محاسبتهما على جرائمهما.

في نهاية السبعينات، عاش المغرب أزمة الديون متمثلة في تراكم متأخرات تسديد الديون وعجز المغرب عن تسديد خدمات الدين الخارجي للدول والبنوك. ومن هنا تدخل صندوق النقد الدولي عبر برنامج التقويم الهيكلي دام عشر سنوات (1983-1993) نتج عنه تدهور رهيب في الأوضاع المعيشية للأجراء والفئات الشعبية. وهو ما أدى إلى اندلاع سلسلة واسعة من الإضرابات العمالية طيلة فترة 1978-81، وثلاث انتفاضات شعبية (1981، و1984، و1990) كانت أساسا ضد ارتفاع أثمان مواد الاستهلاك والخدمات الرئيسية.

ستتواصل الإجراءات التقشفية مع صيرورة الانفتاح الليبرالي المعمم منذ أواسط التسعينات، وتسارعت وثيرة الخصخصة، ومسلسل اتفاقيات التبادل الحر، واتسعت سطوة الشركات متعددة الجنسيات والرأسمال المحلي الكبير المرتبط بها على مجالات الاقتصاد المربحة.

ومع اندلاع أزمة الرأسمالية العالمية في 2007 ستتضخم مديونية المغرب من جديد بشكل مهول، حيث بلغ جاري الدين العمومي الإجمالي مع نهاية 2013 مبلغ 679 مليار درهم (منها 444 مليار للدين الداخلي العمومي، و235 مليار درهم للدين الخارجي العمومي) ممثلا 78% من الناتج الداخلي الخام. ويمتلك سندات الدين الداخلي أقلية رأسمالية محلية هيمنت تاريخيا على جهاز الدولة وعلى الثروات. فمطلب إلغاء الديون لا يعني فقط إلغاء الديون الخارجية بل يتضمن أيضا إلغاء الديون العمومية الداخلية.

أبرم الحاكمون ببلدنا هذه الديون دون الأخذ بعين الاعتبار آثارها المدمرة على الشعب وحقه في التنمية الاجتماعية والعيش اللائق. كما أن تطبيق سياسات التقشف التي تنتج عنها تترافق مع قمع احتجاجات ضحاياها وتقليص الحريات العامة. فهي إذن ديون عمومية غير مشروعة وجب إلغاؤها. ويكون تسديد هذه الديون على حساب الحاجيات الضرورية والحقوق الأساسية للشعب. فنفقات الدين العمومي (2013) تعادل أكثر من 12 مرة ميزانية الصحة، وأكثر من ثلاث مرات ميزانية التربية الوطنية. إنها ديون غير محتملة وبدون إلغائها لن تكون هناك أي تنمية. ومادامت هذه الديون يصادق عليها برلمان لا يمثل الإرادة الشعبية وتغيب أي رقابة شعبية على عقود الديون، فهي ديون غير قانونية وجب إلغاؤها.

هناك تجارب إلغاء الديون ناجحة منها مثلا الإكوادور والأرجنتين[9]، وتعبئات من أجل تدقيق شعبي للديون بعديد من بلدان أوروبا التي تحولت إلى مركز أزمة المديونية وضمنها اليونان التي شكل فيها البرلمان لجنة تقصي الحقيقية حول الدين العمومي اليوناني[10] وقدمت تقريرا[11] يؤكد لا مشروعية ولا قانونية الديون وكونها كريهة ولا تحتمل[12]. وقد صوت الشعب اليوناني لوقف لتسديدها ورفض رزمة الإملاءات الجهنمية للدائنين.  وبناء على كل هذا، تقترح جمعية أطاك المغرب تشكيل لجنة أو ائتلاف وطني من أجل تدقيق مواطني الدين العمومي[13] تشارك فيه جميع منظمات النضال عمالية وشعبية من نقابات، وأحزاب يسارية، ومنظمات حقوق الانسان، وتنظيمات المعطلين والطلبة والنساء والشباب، والأساتذة الجامعيون، والخبراء الاقتصاديون والقانونيون، إلخ. فعلى جميع شرائح الشعب المغربي أن تتكفل بمسألة الديون العمومية وتتعبأ من أجل فرض التشطيب عليها.

06 يوليوز 2015

[1] – كاتب عام جمعية أطاك المغرب-عضو الشبكة الدولية للجنة من أجل إلغاء ديون العالم الثالث.

[2] – جرمان عياش: دراسات في تاريخ المغرب، جوانب من الأزمة المالية بالمغرب. الشركة المغربية للناشرين المتحدين.

[3] – الحبيب المالي: الديون الخارجية المغربية، حكاية لها تاريخ. من كتاب الدولة المغربية عبر التاريخ (1850-1985) بالفرنسية. ترجمة تقريبية جدا على الرابط التالي:  https://attacmaroc.org/?p=2073 .

 

[4] – عبد الله العروي: مجمل تاريخ المغرب، الصفحة 582، المركز الثقافي العربي.

[5] – اعبد القادر برادة: التبعية الاقتصادية على محك الاستقلال السياسي: حالة المغرب (1956-1972). مقال بالفرنسية على الرابط التالي: https://docs.google.com/viewer?a=v&pid=sites&srcid=ZGVmYXVsdGRvbWFpbnxhYmRlbGthZGVyYmVycmFkYXxneDo2MzdhZjBkMzYxMGJlN2Vj

[6] – “جبر أضرار الاستعمار: إيطاليا وليبيا تثيران النقاش”. مقال بالفرنسية على الرابط التالي: http://cadtm.org/La-reparation-des-dommages-de-la

[7] – إريك توسان: “دعم البنك العالمي وصندوق النقد الدولي للدكتاتوريات”. شتنبر 2014. مقال بالفرنسية على الرابط التالي: http://cadtm.org/Le-soutien-de-la-Banque-mondiale,734

[8] – مداخلة بعنوان “هل المغرب في منأى عن أزمة الديون العمومية؟” قدمها في نشاط نظمته HEM بمراكش في فبراير 2013. وهي فكرة أعادها في مداخلات أخرى منها تلك التي قدمها في أنشطة جمعية أطاك المغرب.

[9] – أنظر مقال “تجارب تعليق أحادي الجانب لتسديد الديون خلال القرنين الأخيرين” على الرابط التالي: https://attacmaroc.org/?p=3317

[10] – لجنة تقصي الحقيقة في الدين العمومي اليوناني شكلها البرلمان اليوناني في أبريل 2015، وتشكلت اللجنة من خبراء من مختلف التخصصات ومتطوّعين ومتطوعات من جميع أنحاء العالم، وأسندت رئاستها العلمية للرفيق ايريك توسان الناطق باسم شبكة اللجنة من أجل إلغاء ديون العالم الثالث التي تتحمل أطاك المغرب مسؤولية سكرتاريتها الدولية بشكل مشترك مع اللجنة بلجيكا. أنظر بيان أطاك المغرب على الرابط التالي: https://attacmaroc.org/?p=3300

[11] – عرض مختصر لعناصر تقرير لجنة تقصي الحقيقة في الدين العمومي اليوناني على الرابط التالي: https://attacmaroc.org/?p=3274

[12] – تعاريف الديون غير المشروعة، وغير القانونية (غير شرعية)، والكريهة، وغير المحتملة (لا تطاق) على الرابط التالي: https://attacmaroc.org/?p=3303 .

[13] . أطاك المغرب: “نداء من أجل تدقيق الديون العمومية المغربية: لا تنمية دون إلغاء المديونية”. https://attacmaroc.org/?p=1890

زر الذهاب إلى الأعلى