الديون

القروض الصغيرة: مساعدة الفقراء على البقاء… فقراء

القروض الصغيرة: مساعدة الفقراء على البقاء… فقراء

 

كارول كرباج

يبكي الطفل، لا يكفّ عن البكاء. تحاول والدته النطق ببضع كلمات وسط حالة النحيب. تعتذّر من المسؤولة الميدانية في مؤسسة «المجموعة» عن تأخّرها في سداد الدفعة الشهرية من قرض استلفته من المؤسسة. «مسكين دائماً مريض»، تقول الأم وهي تغمر صغيرها بلطف. «عمره أربع سنوات، لم أتمكن من تلقيحه منذ الولادة»، تعترف بخجل في سياق الحديث عن ظروفها المادية الصعبة. 
تعمل راغدة، في منزلها الصغير في حي السلم، في تزيين الستائر لمصلحة معمل، مقابل نحو ستمائة ألف ليرة شهرياً وفق الإنتاجية. طلبت قرضاً في السابق بقيمة خمسمائة دولار لشراء المواد الخام وماكينة بسيطة للرسم، تمضي راغدة يومها الطويل أمامها (أكثر من عشر ساعات يومياً). سددت القرض بفائدة 20 في المئة وحصلت على آخر بقيمة سبعمائة دولار لدفع الأقساط المدرسية المتراكمة لأولادها. هذه المرة تعثر السداد. زوجها صُرف تعسفياً من العمل في أحد محال الألبسة. «أربعة أشهر من دون عمل، مررنا بظروف صعبة فعلاً. انكسرنا على إيجار البيت مرات عدة». اتى الفرج من أفريقيا حين اضطر زوج والدتها إلى دفع أقساط القرض بالكامل. 
قصة راغدة واحدة من قصص نساء فقيرات حصلن على قرض مجهري لتحسين أوضاعهن الاقتصادية والاجتماعية. قصتها لن تُنشر على مواقع مؤسسات التمويل الصغير، التي تتباهى بقصصها الناجحة فحسب. لكنها ستُضاف إلى تقارير المؤسسات تلك، التي ستُظهر أن نسبة السداد وصلت إلى 99 في المئة كمعيار نجاح برامجها «الهادفة إلى مكافحة الفقر»، بغض النظر عن كيفية السداد. أما عوامل التأخير بالدفع، فتختصرها المؤسسات تلك بظروف فردية وخاصة، غافلةً المعوقات المتعلقة بالسياسات التي تعزّز الاقتصاد غير النظامي والأعمال الهشة.

الربحية: المنطق السائد

بدأت تجربة التمويل الصغير مع «الغرامين بنك» في بنغلاديش لتقديم بديل للفقراء غير المؤهلين للإفادة من الخدمات المصرفية ولتحريرهم من استغلال المرابين. في لبنان، تعتمد مؤسسات التمويل الصغير كفالات شبه رمزية، كـ«قروض التكافل» للنساء، وكفالة الذهب («قرض الحسن»، مثلاً)، وكفالة موظف مضمون الخ. وباستثناء مرونة الكفالة المعتمدة في التمويل الصغير، يبدو أن محاولات التوفيق بين الربحية ومكافحة الفقر لم تنجح فعلياً.
تسعى مؤسسات التمويل الصغير المسجلة كجمعيات إلى جذب الممولين. وتسعى مؤسسات التمويل الصغير المسجلة كمؤسسات مالية إلى جذب المستثمرين، وبينهما المنطق السائد نفسه: الربحية. تتحدث سارة (اسم مستعار) بشكل نقدي عن تجربتها في إحدى المؤسسات التي عملت فيها أكثر من ست سنوات في منطقة الجنوب واستقالت منها، شارحةً السبب: «العنوان الأول هو الربحية، أكان في علاقات مؤسسات التمويل الصغير مع الموظفين أم مع المستفيدين». 
من ناحية الموظفين، تعتمد أبرز هذه المؤسسات نظام الحوافز الشهرية، إذ على الموظف أن يبلغ عدداً معيناً من الطلبات الجديدة على القروض شهرياً، «وإلا يمكن أن يُهدد بفقدان وظيفته»، وفق سارة. تُضيف مفسرةً: «الراتب مركب بمعنى أنه مرتبط بعدد الطلبات ونسبة السداد التي تتخطى غالباً الراتب الأساسي». فيصبح هاجس الموظف استقطاب مستلفين جدد بغض النظر عن مدى نجاح مشاريعهم أو تبعات فشلها عليهم.
من ناحية المقترضين، أصبحت شروط القروض المجهرية أصعب من المصارف التقليدية، من حيث نسبة الفوائد وسرعة السداد وجزاء التأخير. وإذا كان ارتفاع فوائد القروض المجهرية منطقياً إلى حدٍّ ما لأنه يتطلب خدمات إدارية إضافية عن القروض المتوسطة والكبيرة، فإن ذلك لا يبرّر مضاعفة الفوائد التي قد تصل إلى 20 في المئة أو أكثر في بعض مؤسسات التمويل الصغير. وخلافاً للمصارف التقليدية التي غالباً ما تُعطي فترات سماح للقروض المدعومة التي تستهدف المشاريع الإنتاجية والتعليم الجامعي والسكن، تعتمد مؤسسات التمويل الصغير نظام السداد الفوري للقروض. فتمنع بذلك المشاريع الإنتاجية التي تتطلب قروضاً طويلة الأمد من التطوّر والتوسّع. 
أكثر من ذلك، إن سهولة الحصول على قروض مجهرية تقابلها إجراءات عقابية شديدة القسوة في التعامل مع المستلفين الفقراء. على سبيل المثال، إن جزاء التأخير في إحدى المؤسسات على كل يوم تأخير هو دولار واحد، بغض النظر عن قيمة الدفعة الشهرية. وفي حال عدم الدفع نهائياً (مهما كانت الأسباب)، ترفع المؤسسة دعوى على المستلف، على أن يتكفّل هو تكاليف محامي «المؤسسة» بموجب العقد الذي وقعه عند طلب القرض. فيدفع بذلك تكاليف المحامي الذي سيترافع ضده. أما حالات الكوارث والحروب، فلا تعني معظم مؤسسات التمويل الصغير التي تختصر «نجاحاتها» بنسب السداد الـ99 في المئة. تحكي سارة باستهجان عن تجربتها خلال العدوان الإسرائيلي في العام 2006: «طلبوا منا تحصيل الدفعات الشهرية وجزاء التأخير من سكان فقدوا ذويهم وبيوتهم وأرزاقهم!»
دولار في اليوم أو ثلاثين في الشهر، مبالغ كبيرة لفقراء يحصلون على قروض تبدأ من مئة، وبالكاد تصل إلى ثلاثة آلاف دولار. المنطق العقابي الذي يحكم تعاطي هذه المؤسسات مع مستلفيها يهدف بشكل أساسي إلى تعويض المخاطر الناتجة من مرونة الكفالة وإلى خفض جهود التدقيق والرقابة على المشاريع التي تستفيد من القروض المجهرية. علماً أن تلك المؤسسات نادراً ما تقدّم للمقترضين خدمات تطوير الأعمال بهدف تمكينهم من إدارة مشاريعهم وتطويرها وزيادة انتاجيتها، ما يدفع بعض المقترضين إلى الاستدانة لسداد قيمة القرض. 

دوامة الاستدانة

حاولت ريما أن تزيد دخل أسرتها التي تعيش من محل سمانة في أحد أزقة مخيم برج البراجنة، مستخدمةً أضيق القنوات. قدمت طلباً في مكتب الأنشطة النسائية في «الأونروا» للحصول على قرض جماعي يسمح لها بشراء مجموعة كومبيوترات تضعها في ركن من الدكان. وقد اشتركت معها بشكل صوري أربع نساء من العائلة لتتمكن من الحصول على «قرض التكافل». استثمرت بذلك القرض كاملأ، وتبلغ قيمته 2500 دولار (خمسائة دولار لكل امرأة). 
«والله نجح المشروع في الأشهر الأولى، بعدها بدأت المصائب»، تنطق ريما. فتراجع دخل الدكان تدريجاً بعدما اتخمت سوق المخيم بمقاهي الإنترنت، خصوصاً أن في الشارع نفسه أربعة محال تقدّم الخدمات نفسها، وفق ريما. تزامن هذا التراجع مع مرض ابنها، ما تطلّب أدوية دورية مكلفة. «المصروف فاق الإنتاج، فاضطررنا إلى بيع المحل… وتراكمت الديون». اقترضت من جمعية أخرى مليوني ليرة وطلبت من أحد أقاربها في الإمارات المبلغ الباقي، «لتسيير الحال». 
تتحدث سارة عن حالات مماثلة صادفتها ضمن عملها. «بعضهم يدفع أقساطه بانتظام لا شكّ، لكن هناك كثيرا من الحالات التي عايشتها كانت تضطر إلى الاستدانة من أقارب أو مؤسسات أخرى أو بيع أحد الممتلكات للسداد». وتتابع وهي تستحضر تفاصيل حادثة حصلت معها: «أذكر حالة مستفيد اضطر إلى إعطاء كومبيوتره الشخصي إلى أحد الموظفين لبيعه ودفع القسط الشهري عنه». 
الاستدانات المتداخلة أصبحت شائعة في عمل مؤسسات التمويل الصغير بسبب غياب التنسيق وتبادل المعلومات في ما بينها. يعتبر علي حجازي مدير برامج القروض المجهرية في «جمعية التنمية الريفية» أن «ليس هناك أي إرادة لتنظيم وتنسيق عمل مؤسسات التمويل الصغير ووضع حدّ للاستدانات المتداخلة». ويؤكد أن الخوف من المنافسة هو أحد أسباب عدم تبادل المعلومات بين المؤسسات. 
خلافاً لخطاب الجمعيات الذي يسوّق للعمل للحساب الخاص كحل أمثل للفقر، نسبة كبيرة من القروض المجهرية تُستخدم بشكل رسمي أو ملتوٍ للاستهلاك. ومن خلال الحديث مع مسؤولين ميدانيين وحالات في أربع مؤسسات تمويل صغير، تبيّن أنه غالباً ما توظّف قروض الاستهلاك للدفع مقابل خدمات صحية أو تعليمية (مدرسية وجامعية). خدمات (حقوق؟) يدفعها فقراء يفتقرون إلى أدنى الضمانات الاجتماعية. فتؤكد مريم الشعار من «مكتب الأنشطة النسائية» في برج البراجنة أن معظم القروض توظّف لترميم بيوت غير آمنة، أو للعلاج من أمراض مستعصية، أو لدفع أقساط جامعية. 
تغفل مؤسسات التمويل الصغير في تحليلها نجاح المشاريع أو فشلها، عن افتقار الفئة المستهدفة إلى الحقوق الأساسية، ما يدفعها أحياناً إلى استهلاك قروض الاستثمار أو عدم القدرة على إعادة استثمار الأرباح لسدّ حاجاتها الأساسية. تعجز عن الدفع، فتضطر إلى الاستدانة مجدداً. هذه الحالات يتم طمسّها في تقارير المؤسسات التي تركّز على نسب سداد القروض من دون أي تدقيق اجتماعي يُظهر مدى انتاجية الأعمال التي ساهمت في إنشائها أو نسبة الأعمال التي تصمد أكثر من ثلاث سنوات بعد قيامها. 
وبغض النظر عن مشكلة الاستدانة، حتى أكثر الحالات «إيجابية» التي تتباهى بها مؤسسات التمويل الصغير، لا تلمع فعلاً. فالقروض الصغيرة تنشئ مشاريع بالغة الصغر لا تستخدم موظفين ونادراً ما تكون إنتاجية. إنه العمل للحساب الخاص الذي صنفته «منظمة العمل الدولية»، في احد تقاريرها السنوية الصادرة عن العمالة سنة 2012، بـ«العمل الهش». فإنشاء صالون تجميل أو محل خياطة (أحياناً من المنزل) هو مجرد نشاط يؤمن دخلاً إضافياً لا يوفر غالباً حياةً لائقة واستقلالاً مادياً. فضلاً عن أن المؤسسات تلك يمكن أن تعطي القروض لإنشاء أعمال مماثلة وفي المحلة ذاتها، ما يتخم السوق ويؤجج التنافسية بين الفقراء، مثل حال ريما.
استهداف الفقراء المحرومين من الضمانات الاجتماعية والحقوق الأساسية، من جانب تلك المؤسسات، لإبقاء وضعهم على ما هو عليه، وتخديرهم، هو ما تسعى إليه وتفاخر به معظم مؤسسات التمويل الصغير ومعها الجهات المانحة.

 

زر الذهاب إلى الأعلى