الديون

الديون الخارجية المغربية..حكاية لها تاريخ

الأزمة المالية الحالية التي تضرب الاقتصاد المغربي، بطبيعتها وتجلياتها، تذكرنا أساسا بأزمة القرن 19 التي زعزعت بقوة البنيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للبلد، مما أسفر عن انعقاد مؤتمر الجزيرة الخضراء سنة 1906.

من المؤكد أن السياق الدولي والشروط التاريخية مختلفة بشكل كبير، ومغرب نهاية القرن 19 تصعب مقارنته بمغرب اليوم. ولكن الأزمتان تنتميان لفترة مصيرية من التحول التاريخي والاقتصادي والمالي، كما أنهما تصادفان تحولات كبرى للرأسمالية.

توالي هذه الأحداث التاريخية المتشابهة (أزمة القرن 19 وأزمة القرن 20) يبرز أن مشاكل المديونية الدولية للمغرب لم تَأت من قبيل الصدفة، وليست عابرة ولا جديدة. في القرن 19 وفي ظل توسع الرأسمالية الأوروبية، كانت المديونية عاملا مساعدا في تسريع التدخل الأجنبي للمغرب كما لغيره من البلدان جنوب المتوسط (مصر وتونس)، والتحولات التي نتجت عنها ستعيد تشكيل الاقتصاد والمجتمع المغربيين طيلة القرن 20.

نعيش اليوم إعادة إنتاج نفس المسار، أزمة مالية خانقة تعصف بدرجات متفاوتة بعدة بلدان في المنطقة المتوسطية من بينها المغرب، وكسابقتها كذلك تجسد مرحلة تحول رأسمالي، ويصاحبها إعادة تشكيل العلاقات “شمال/جنوب” وتحدد ما سيكون عليه اقتصاد القرن 21.

وتتميز المرحلة الحالية بالتزايد المضطرد لاندماج العالم الثالث في الدورة المالية العالمية، فبعد الاندماج ذو الصبغة التجارية، ثم الاندماج ذو الصبغة الصناعية، جاء دور الاندماج المالي الذي يعمل:

–   بطريقة مباشرة عبر خلق مناطق مالية off-shore في جهات معينة (البلدان النفطية، مناطق الطفرة الصناعية: هونكونغ سنغافورة…)

–   أو بطريقة غير مباشرة من خلال التدخل في وضعية البلدان التي تعرف مشاكل في السيولة، والمغرب يمكن تصنيفه في الوضعية الثانية.

لقد كان العالم الثالث دائما متنفسا للأزمات الرأسمالية، وفي الأزمة الحالية يلعب دور الخزان الذي ينفذ إليه فائض السيولة طيلة السبعينات، مما يسمح بخلق سوق للبضائع المتكلسة في الأسواق الرأسمالية. وفي ظل هذه الشروط التي ارتفع فيها منحنى الديون الدولية بشكل كبير: البنوك صارت تُعير بدون حساب والعالم الثالث يَستعير بدون حساب.

إن التقارب بين الأزمتين الماليتين للمغرب (الأولى تعود لنهاية القرن 19 بداية القرن 20 والثانية حالية) تسمح باستنباط العوامل المشتركة التي كانت وراء الأزمة، والتي يمكن تصنيفها على ثلاثة أصناف أساسية:

-عوامل خارجية مرتبطة بسياق الأزمة الاقتصادية العالمية، خاصة في أوروبا، وما تلقي به من ظلال على الاقتصاد المغربي.

-عوامل داخلية تتعلق بالقدرة على إصلاح النظام الاقتصادي والاجتماعي وشكل تدبير الموارد-عوامل خارجة عن إرادة المغرب، ولها وزن كبير على التوازنات الاقتصادية والمالية، مثل الحروب المفروضة على المغرب وشح الظروف الطبيعية والمناخية. كل هذه المشاكل التي مَيَّزت أزمة القرن 19 لها راهنيتها اليوم وحاضرة في الأزمة الحالية.

تذكير مقتضب بالأزمتين يمكننا من الوقوف على حمولة الأصناف الثلاثة لعوامل الأزمة المذكورة سلفا.

                             نظرة على أزمة القرن  I. 

 

إن الاهتمام التاريخي بالمغرب من طرف القوى الأجنبية يفسر لنا الحاجة إلى وضع خطط للهيمنة، خطط متنوعة الشكل ومتفاعلة مع تغيرات موازين القوى العالمية وتطور تناقضات النظام الرأسمالي سواء على الصعيد الوطني أو الدولي. فالقوى الأجنبية في إستراتيجيتها الجيو-سياسية كانت دائما تضع الموقع الاستراتيجي للمغرب محل اهتمام. ” شمال إفريقيا جزء من أوروبا، وَصِلَتُنا مع إفريقيا التي يفصلنا عنها عوالم من الصحاري” هكذا كتب الجنرال جوان، أما الجنرال كيوم فقد قدم نفس الفكرة بقوله: “إنها مسألة حياة أو موت للأمة الفرنسية ولأوروبا، فيكفي إلقاء نظرة على أية خريطة لنعرف بشكل لا يقبل الجدل أن حل المشاكل الإستراتيجية لأوروبا في شمال إفريقيا”

في القرن 19 تم وضع عدة آليات لتعزيز الرغبة القوية والمستمرة للقوى الأجنبية في التواجد بالمغرب: مراقبة مالية، ضغوطات عسكرية، تنامي الحمائية. واشتدت القبضة الأجنبية على المغرب بتقوية الضغوطات خاصة في المجال المالي الذي كان مجالا لإطلاق شرارة الأزمة المالية وما تبعها من تأثيرات فورية.

  – 1- أصل أزمة القرن 19 

  :بالإضافة للأسباب البنيوية الموروثة للدولة المغربية، يمكن تفسير أزمة القرن 19 كنتيجة لتظافر الأسباب الكبرى التالية

أ – تأثير الأزمة الأوروبية لنهاية القرن 19.

ب- تأثير الصراع الإسباني المغربي.

ج – أثر الظروف المناخية على الفلاحة.

د – عدم نجاعة الإصلاحات المخزنية.

 

أ- تأثير الأزمة الأوروبية لنهاية القرن 19

بخلاف أزمة 1846-1851 كانت أزمة 1874-1896 نتيجة للنقص الحاد في المداخيل وانخفاض مهول لأثمنة المنتوجات الزراعية وما نتج عنه من عواقب (حمائية، انخفاض مداخيل التحميل…) وكان المغرب في هذه الفترة يصدِّر أساسا الحبوب والجلود والصوف للأسواق الأوروبية، هذه الأسواق عرفت بدورها إغراقا بالحبوب الأمريكية المتميزة أساسا بانخفاض أسعارها نتيجة انخفاض تكلفة نقلها بسبب تطور النقل البحري، ويمكن قول نفس الشئ على الصوف المغربي الذي ينافسه الصوف الأسترالي الذي سَهُل نقله لأوروبا بإنشاء قناة السويس. وزاد لجوء الدول الأوروبية للحمائية من عرقلة الاقتصاد المغربي، وزاد من ثقل الحمائية ارتفاع أثمنة المنتوجات المغربية الذي ارتفعت معه نسبة الاقتطاعات من موارد التصدير.

ب- تأثير الصراع الإسباني المغربي

بعد واقعة الحدود لسنة 1859 انطلقت حملة استعمارية إسبانية لاحتلال بعض الثغور المغربية، حيث أن إسبانيا في فبراير 1860، أي بعد أربعة أشهر من مناوشات الحدود، أعلنت تطوان مقاطعة تابعة للتاج الإسباني. وبعد أشهر من المشادّات أعلنت إسبانيا استعدادها الخروج من تطوان مقابل تعويض قدره 100 مليون فرنك ذهبي. وافق المغرب على أداء المبلغ داخل أجل ثمانية أشهر، والتزمت إسبانيا من جهتها بالجلاء مباشرة بعد أداء نصف التعويض المتفق عليه. تم أداء 25 مليون فرنك منها 10 مليون فرنك قرض خارجي من انجلترا. فاستمر بذلك جفاف مداخيل الخزينة إلى غاية 1855 بسبب أداء المغرب ل 69 مليون فرنك ذهبي منها دَيْن إسباني ودَيْن إنجلترا بنسبة فائدة 5% وعمولة 15%. فعملت إسبانيا على زرع رجالها بالموانئ المغربية لاستخلاص نصف المداخيل الجمركية، التي تعتبر إحدى أهم الموارد الجبائية للدولة المغربية، فعملت الدولة على الاقتراض من بعض التجار المغاربة والأجانب بسبب الضغط الجبائي الأجنبي، ولم تعرف مالية المخزن انفراجا إلا بانتهاء الدَّيْن سنة 1885.

ج- أثر الظروف المناخية على الفلاحة

بعد الموسم الجيد لسنوات 1870-1876 توالت سنوات عِجاف 1877-1886 وزاد اجتياح الجراد سنة 1878 من قساوة الظروف، بحيث ارتفعت أثمنة الحبوب بنسبة  300%في ظرف أسابيع، مما يعني اضطرار المغرب للرفع من حجم وارداته من الحبوب في ظل انخفاض مداخيله من التصدير، ففي هذه الفترة انخفضت الصادرات المغربية بنسبة 45% في حين انخفضت الواردات ب 28% فقط، وتجدر الإشارة إلى أن واردات المغرب من الحبوب في ظرف ست سنوات فقط بلغت حوالي 14 مليون فرنك ذهبي.

د- عدم نجاعة الإصلاحات المخزنية

عرفت هذه الفترة إصلاحات مخزنية هدفت لتصحيح الوضعية الداخلية، إلا أنها لم تعرف نجاحا يذكر. فتَحْت الضغط المتزايد لاختلال ميزان المداخيل والتكاليف ( 990,000 بسيطة سنة 1859) (6,000,000 سنة 1882)( 20,000,000 سنة 1893)

( 40,000,000 سنة 1900). حاول المخزن مراجعة النظام الجبائي وإحداث رسم جديد للتصدير والاستيراد، وتحديث الإدارة المخزنية حيث تم في هذا السياق إحداث “مدرسة مخزنية” من طرف السلطان سيدي محمد، وإعادة هيكلة القطاع المالي والجبائي بإحداث “أمين الدخل” يراقب المداخيل على المستوى المركزي و”أمين الخارج” يراقب المصاريف و”أمين الحساب” يدقق الحسابات، يرأسهم جميعا “أمين الأمناء” يقوم بمهام وزارة المالية. ولمواجهة نقص المداخيل الجبائية أحدث المخزن “رسم الدخول” الذي لم يشمل الأجانب ودوابهم، هذا الإعفاء الضريبي سمح للأجانب بمنافسة التجار المحليين مع استمرار تناقص المداخيل الجبائية. في مارس 1881 قرر المخزن شمول التجار الأجانب برسم الدخول، إلا أن ما نتج عن ذلك من بُطء للحركة التجارية أدى إلى إلغاء الرسم مجددا سنة 1885 من طرف المولى الحسن الذي عوضه برسم للخروج من الموانئ، هذا الإجراء كذلك تم إجهاضه بسبب الاحتجاجات الأجنبية التي دعت لاحترام “أفضليتهم على الآخرين” حسب مضمون اتفاق موقّع مع انجلترا سنة 1856 وكان معتمدا في التجارة بين البلدين ويلتزم المغرب بموجبه بعدم فرض أي رسم على دخول البضائع أو خروجها.

أما تصدير الشعير والقمح والذرة في اتجاه لندن ومارسيليا ولشبونة الذي اتجه إليه السلطان سنة 1884-1885 فلم يساهم بشئ في تحسين الوضعية، لهذا عرفت هذه الفترة 1884-1886 عدة محاولات للاقتراض الأجنبي لم تكلل بالنجاح.

 – 2- نتائج أزمة القرن 19

ارتفعت نفقات الدولة المغربية نتيجة التكاليف العسكرية وتحديث الأسلحة والديْن الإسباني، في حين واصلت المداخيل انخفاضها. فالأزمة التجارية سببت عجزا بلغ 70% في المداخيل الجبائية وهي المورد الأساسي للمخزن. أما المداخيل الجبائية القادمة من العالم القروي فقد تأثرت بشكل كبير بتوالي سنوات الجفاف واستبدال الأعشار العينية بالأداء نقدا، مما جعل الأسر تكتفي ببعض الزراعات المعيشية. أضف إلى كل ذلك تنامي نفوذ الأفراد الأجانب بسبب تنامي سياسة توقيرهم وحمايتهم.

  1.                                  الأزمة المالية الحالية  II.

 

لقد تكررت تقريبا نفس العوامل وبنفس التصنيف المذكور في التحليل أعلاه، رغم أنها تتفاعل بطريقة مختلفة في سياق وظروف مختلفين. لذا فالمقارنة والتقريب بين الأزمتين له ما يبرره

-إن النهج المالتوسي (نسبة لعالم الاقتصاد مالتوس) الذي سارت عليه السوق الأوروبية المشتركة والذي يمس بشكل مباشر العمال المهاجوالصادرات المغربية تجعل اتفاق التعاون لشهر أبريل 1976 غير ذي موضوع. فالعمال المغربة بالخارج يبلغ عددهم 700,000 عامل بأوروبا منهم 500,000 بفرنسا، وتبلغ تحويلاتهم في المتوسط السنوي 5 مليارات درهم أي 40 بالمائة من مداخيل التصدير، أي ما يعادل المبالغ المؤدّاة عن الديْن العمومي سنة 1983. وقد عملت السوق الأوروبية المشتركة، التي تستقطب 60% من الصادرات المغربية، على مضاعفة العراقيل أمام الصادرات المغربية. كما أن توسيع مجال السوق الأوروبية المشتركة ليشمل البرتغال وإسبانيا وضع نمو الاقتصاد المغربي على المحك.

-إن الجفاف كظاهرة طبيعية وَصَمَت وجه العالم القروي طيلة الأربع سنوات الأخيرة، مع العلم أن الزراعة مازالت تحضَى بالصدارة في الاقتصاد الوطني، أدى على عجز حاد في مخزون الحبوب وبالتالي أثّرَ في الميزان التجاري. وتبقى مداخيل العملة الصعبة من تصدير الحوامض والبواكر مُوَجَّهة لتغطية نفقات استيراد المواد الغذائية الأساسية في ظروف معيشية تزداد صعوبة يوما بعد يوم. وتزيد تكلفة الاستهلاك الطاقي ب 80%، ومنذ سنة 1979 تجاوزت بشكل واضح واردات القطاع الطاقي المداخيل المُحَصَّلة من تصدير الفوسفاط. وتُعزى هذه الوضعية إلى عدة مسبِّبات أهمها: الأزمة النفطية الثانية، ارتفاع سعر الدولار، وتراجع أثمنة الفوسفاط مع نقص في الكمية المُصَدَّرة.

-أما الصنف الثالث من الأسباب والمتعلق بالتكلفة المالية المُوَجَّهة للدفاع عن الوحدة الترابية، باعتبار حرب الصحراء حربا مفروضة على المغرب منذ 10 سنوات، وتستنفذ جزءً لا يستهان به من الدخل الوطني، وآثارها على المالية الداخلية واضح للعيان.

العوامل الخارجية (ظلال الأزمة العالمية على المغرب، السياسة الحمائية الجديدة، السوق الأوروبية المشتركة، التنامي المضطرد لسعر الدولار) والعوامل المفروضة على المغرب (الدفاع عن الوحدة الترابية والجفاف) كلها لا تكفي لفهم الأزمة الاقتصادية والمالية الحالية.

يمكن القول  ولو بتحفظ – إن المغرب بلد سائر في طريق النمو، ويمكن القول كذلك إن اقتصاده هو اقتصاد فلاحة ومناجم، مع حركة تصنيع بطيئة. هذا النوع من الاقتصاد المصنف مابين المرحلة الأولى والثانية من التصنيف الدولي للعمل. يصعب الجزم إذن باستقلالية نموذج اقتصادي معتمد أساسا على مصادر أجنبية، وتشتد الوطأة على هذه الاستقلالية بسبب التوزيع غير العادل للموارد، وتنامي النزعة الاستهلاكية باعتبارها نموذجا ثقافيا جديدا، ففي مثل هذه الظروف ميكانيزمات الاستهلاك تكون أنجع من ميكانيزمات الإنتاج والتراكم.

هزالة نتائج مختلف قوانين الاستثمار رغم ليبراليتها، ضعف مردودية الاستثمار العمومي، هدر المال العام نتيجة البيروقراطية الكابحة للتنمية، ناهيك عما يعرفه الاستثمار في القطاع الخاص من مضاربات وفساد.

كل هذه العوامل متضافرة تُبرِز الضعف الكبير لأسس التنمية الاقتصادية، في ظل اقتصاد تَعَذَّر إصلاحه رغم كل المجهودات المبذولة. مما يدفع اتجاه البحث عن حلول خارجية (تنفيسات خارجية) لمشاكل بنيوية داخلية، وهذا حال أغلب الدول الإفريقية التي تجعل من الحفاظ على البنيات التقليدية القائمة قاعدة ذهبية في سياساتها المالية والاقتصادية.

  1.                             صعوبة الظرفية الاقتصادية ترجع أساسا للأزمة المالية نتيجة الديون    III.

 المغربية لدى صندوق النقد الدولي منذ 1980

 

:تتمظهر هذه الوضعية في عدة مظاهر عنوانها الأبرز الأزمة

– عدم انتظام وارتباك معدل النمو الاقتصادي، مع مَيْل دائم نحو الانخفاض، حيث بلغ معدل المتوسط السنوي للنمو 6,8% خلال فترة 1973/1977 في حين بلغ 4% في الفترة 1978/1980 و 2,5% في الفترة 1981/1983. هذا المَيْل نحو الانخفاض طيلة عقد من السنوات، يبرز الوزن القوي للأنشطة الفلاحية والمُوَجَّهة نحو التصدير وتأثُّرها بالظروف المناخية والطلب الخارجي.

   اختلال ميزان المبادلات التجارية: الذي يمكن قياسه بالعجز الذي عرفته العمليات الخارجية الذي تضاعف حوالي خمس مرات مابين 1975 و-  1982 (2273- مليار درهم 1975) ( 5600- مليار درهم 1980) ( 11900– مليار درهم 1982). وانخفضت مساهمة هذا القطاع في الناتج الداخلي الخام حيث تطورت من 1,68% سنة 1973 إلى 6,08%  سنة 1975 إلى 7,28% سنة 1980 إلى 12,92% سنة 1982. واستمر هذا الوضع رغم التحويلات الفردية القادمة من الخارج والتي لم تكْفِ لعلاج عجز الميزان التجاري الذي انخفضت معدل تغطيته من 60% سنة 1975 إلى 57% سنة 1980 إلى 55,8% سنة 1983. هذا النقص المهول في الموارد المالية يفسر اللجوء المكثف لحلول صندوق النقد الدولي بالاقتراض لسد العجز.

–   تزايد اختلالات المالية الداخلية: انخفاض قيمة الميزانية العامة بلغ أرقاما قياسية مع نهاية المخطط الخماسي الثالث 1973/77 وبداية انطلاق المخطط الخماسي الرابع 1981/85. دون إغفال ماحصل سنة 1980 التي سجلت عجزا قُدّر 10 مليارات من الدراهم أي ما يعادل 7% من الناتج الداخلي الخام. وكانت الصبغة الأساسية لتمويل هذا العجز هي القروض الخارجية، حيث أصبحت تقليدا في الميزانية العامة، حيث تمت تغطية جل نفقات الاستثمار في إطار المخطط الخماسي 1981/85 بقروض خارجية حيث بلغت 88,5% سنة 1981 و 60,8% سنة 1982 و 57,5% سنة 1983 و 72% سنة 1984.

نتيجة كل هذه الإجراءات كانت هي دخول المغرب دوامة القروض الدولية، حيث بلغت قيمة القرض الخارجي 900 مليون دولار سنة 1972 و 12 مليار دولار سنة 1980 بمعدل تطور زيادة سنوي يقدر ب 130%.

وكان للتوجه نحو السوق المالية العالمية مابين 1975 و 1981 أثر مزدوج: من جهة تسريع وثيرة المديونية الخارجية، حيث بلغ صافي القروض من المؤسسات المالية العالمية ما يزيد على 14 مليار دولار، أي 60% من المداخيل الخارجية لنفس الفترة. ومن جهة أخرى نتج عن ارتفاع الدّيْن ارتفاع مُوَازٍ لنسبة الهشاشة داخليا وزاد من حدة ظاهرة الاقتراض ارتفاع تكاليف الدّيْن (ارتفاع نسبة الأرباح، ارتفاع قيمة الدولار، تقليص آجال الأداء…)، ونتيجة لهذا تَضَاعف مُعَامِل الديْن في بحر أربع سنوات (23,2% سنة 1980) و (11,3% سنة 1977)، ومنذ سنة 1981 صارت الوضعية تتعقد يوما بعد يوم وأصبحت قدرة المغرب على أداء ديونه محل شكوك.

–   الاقتراض من صندوق النقد الدولي وتطبيق برنامج التقويم الهيكلي: فقبيل انطلاق المخطط الخماسي لسنة 1981/85 حاول المغرب فتح باب المفاوضات مع صندوق النقد الدولي في أفق وضع برنامج للتقويم الهيكلي للفترة الممتدة بين فاتح يوليوز 1980 و30 يونيو 1983 وذلك لغايتين اثنتين، من جهة تحقيق نهضة اقتصادية وثانيا إعادة الاستقرار للتوازنات المالية الخارجية والداخلية. ولم يتمكن المغرب في هذه الفترة من الوصول لاتفاق يلزم الطرفين، مما طبع المرحلة بالتذبذب والارتباك دامت إلى غاية صيف 1983. إلا أن هذا البرنامج كان له أثر عميق على اتجاه السياسات العمومية، فما هي الخصائص الكبرى لهذا الأثر؟

  • كان البرنامج إجمالا يسعى لتحقيق معدل نمو متوسط يبلغ 4,5% من الناتج الداخلي الخام سنويا، مما يفرض بلوغ معدل النمو المتوسط السنوي للاستثمار حوالي 21%، ورِبح أربع نقط إضافية في معدل الادخار الداخلي (15% عند نهاية البرنامج مقابل 11% في بدايته). وبلغت نسبة الاستهلاك الفردي عند نهاية البرنامج 0,5%. كما ينصح البرنامج بتقليص النفقات العمومية بنسبة 1% ما بين سنتي 1981/1983، مع التحكم في عجز الحساب التجاري ليبلغ 5% فقط من الناتج الداخلي الخام لسنة 1983 مقابل 10% سنة 1979.
  • يستهدف البرنامج أربعة قطاعات اقتصادية: الفلاحة: التي تم تحديثها للرفع من معدل النمو الاقتصادي ورفع جودة المنتوج خاصة المُوَجَّه للخارج، مع تأهيل المناطق البورية وما يتطلبه ذلك من تعديلات قانونية وتنظيمية.

الصناعة:استهدف البرنامج في هذا القطاع تطوير المصنوعات المُوَجَّهة للتصدير، مع تشجيع المقاولة الصغرى والمتوسطة، وسن سياسة في المقاولات العمومية (ويبلغ عددها 600 مقاولة 70% منها مجرد فروع ل 15 مقاولة كبرى أساسية) تهدف هذه السياسة لتحقيق الانسجام بينها وتحقيق مردودية أكبر، وهو ما يفسر مراجعة أسعار الخدمات العمومية.

الطاقة: كان الهدف هو رفع العرض الداخلي من الطاقة، مع الاقتصاد في استهلاكها بشكل يصل فيه معدل الاستهلاك من 82% إلى 70% سنة 1985. وتم تسعير المنتوجات النفطية بدل سياسة دعم المنتوجات الطاقية.

  • الميزانية: تم سن سياسة في هذه الفترة تهدف إلى رفع تكاليف التجهيز ذو الطابع الاقتصادي، وترشيد نفقات التسيير، وتقليص العجز الإجمالي للخزينة. وكان المنتظر من هذه الإجراءات توفير 7 مليار درهم لتكاليف التجهيز ورفع تكاليف التسيير بنسبة 1% سنويا وبالتدريج، من هذا الباب يبدو مناسبا تخفيض المبالغ الموَجَّهة للتربية والتعليم التي حددها البرنامج في 28% لا غير، من ميزانية الدولة، ونفس الشئ ينطبق على الدعم الموَجَّه لصندوق المقاصة، مما نتج عنه تحقيق معدل ادخار مهم من ميزانية التسيير.

إصلاح النظام الضريبي نقطة أساسية في برنامج العمل هذا، وذلك لتطوير المدخول الجبائي ومحاربة التهرب الضريبي.

صارت سياسة القروض الخارجية شأنا ثنائيا بين المغرب وصندوق النقد الدولي تُدَبّر على نطاق ضيق بين الطرفين، آخذين بعين الاعتبار ارتفاع المبالغ المطلوب أداؤها وضرورة تحسين وضعية المديونية العمومية.

  • تحرير المبادلات الخارجية، لضمان تنافسية الاقتصاد المغربي في الأسواق الدولية (تصنيف منتوجات B ضمن الصنف A، إلغاء نظام الأداء المسبق على الصادرات والنسب المفروضة على التحويلات من الخارج).
  • مراجعة نظام الصرف النقدي منذ سنة 1973، مما انعكس سلبا على قيمة العملة الوطنية.

كانت هذه أهم الخطوط الموَجِّهة لبرنامج التقويم الهيكلي المقدَّم من طرف صندوق النقد الدولي، ولكن سنة 1983 ستعرف أهم تطبيق لهذا البرنامج عن طريق تعديل قانون المالية لهذه السنة بهدف تقليص العجز العام للخزينة، حيث تقرر:

  • تخفيض التكاليف: بإلغاء 19,000 منصب مالي من أصل 44,000 مُبَرمَجة في ميزانية 1983، ارتفاع ثمن المواد الاستهلاكية المدعمة بسبب انخفاض الدعم الموَجَّه لصندوق المقاصة من 2 مليار درهم سنة 1982 إلى 1.4 مليار درهم سنة 1983، تخفيض تكاليف الاستثمار حيث بلغت 13.6 مليار درهم سنة 1983 مقابل 16,8 مليار درهم سنة 1982.
  • رفع المداخيل: رفع معدل الضريبة على المنتوجات من 17% إلى 19%، رفع قيمة المساهمة في التضامن الوطني “ضريبة الصحراء”، الرفع من رسوم التنبر. كما أن هناك إجراءات إضافية تم سَنُّها لتقوية التوجه نحو محاربة الاختلالات في العلاقة مع الخارج عن طريق تعضيد مداخيل العملة الصعبة عن طريق تشجيع الصادرات وتحويلات العمال المغاربة بالخارج، وشن حملة دعائية للسياحة. ومن بين الإجراءات الأكثر أهمية المقدَّمة من طرف صندوق النقد الدولي، مراجعة قيمة الدرهم هذه المراجعة التي لا تعدو تبخيسا مقنعا لقيمة الدرهم، حيث فقدت العملة الوطنية حوالي 20% من قيمتها بين غشت 1983 وشهر ماي 1984.

تم اتخاذ كل هذه الإجراءات بهدف تسهيل المفاوضات بين المغرب ودائِنيه، من أجل إعادة جدولة ما عليه من ديون. ليوقع المغرب بذلك بروتوكول اتفاق مع نادي باريس في أكتوبر 1983 الذي يحدد الشروط العامة لإعادة الجدولة. في حين فُتِحت قنوات التفاوض مؤسسات مالية عالمية أخرى.

وواصل قانون المالية لسنة 1984، السير على نفس الإجراءات المُقرَّرة في قانون مالية 1983، أي مواصلة سياسة التقشف سواء في تكاليف التجهيز أو تكاليف التسيير، مما يحيلنا على الملاحظتين التاليتين:

  • ارتفاع المبالغ الموجَّهة لصندوق المقاصة، خلافا لتوجيهات البنك الدولي، حيث وصل مبلغ الدعم 2 مليار درهم سنة 1984 مقابل 1.6 مليار سنة 1983.
  • ارتفاع تكاليف القروض الخارجية: 9.4 مليار درهم، أي ما يعادل ميزانية الاستثمار البالغة 10.4 مليار درهم. مع التذكير هنا بأن الرهان الرسمي هو أن يبلغ العجز الإجمالي للخزينة سنة 1984 إلى  6%من الناتج الداخلي الخام.
  1.                           رؤية نقدية لسياسة صندوق النقد الدولي   IV.  

 

:على ضوء النتائج الأولية يمكن الحكم على السياسة المقترحة من طرف صندوق النقد الدولي من خلال مستويين

  • النهضة الاقتصادية التي لم تتحقق بعد، حيث معدل النمو شبه منعدم +0.6% سنة 1983، ويمكن إرجاع هذا الوضع السئ إلى الانخفاض الكبير للقيمة المضافة للزراعة -6%  والأشغال العمومية -10% لما لهذين القطاعين من أثر كبير على الاقتصاد الوطني. حيث أَثّر تخفيض النفقات العمومية في مجال التجهيز على جل الاستثمار الوطني، ففي سنة 1984 كان متوقعا معدل نمو اقتصادي مقدر ب +3% (يتماشى مع معدل النمو الديموغرافي)، إلا أن المؤشرات الرسمية لتكلفة المعيشة تؤكد ارتفاعها بشكل كبير، مما يهدد بنسبة تضخم قوية والتي طبعت بداية سنة 1984 حيث بلغت +12,5% لشهر يناير /فبراير مقارنة بنفس الفترة من السنة التي قبلها.

بإيجاز يمكن القول إن هزالة النتائج المحقَّقة وغياب النجاعة في التفعيل يؤكد غياب أي تحول فعلي في الواقع الاقتصادي مما يوحي بأن تطبيق هذا البرنامج غير مُجْدٍ أو كأنه لم ينطلق أصلا.

  • في التوازنات الكبرى تم تحقيق نتائج على الشكل التالي: العجز الإجمالي للخزينة سجل 8 مليار درهم سنة 1983 عوض 11 مليار سنة 1982 أي بحوالي 8,4% من الناتج الداخلي الخام، ويتوقع تسجيل عجز 7.6 مليار درهم سنة 1984. وقد لعبت السياسات المالية دورا في تحصيل هذه النتيجة، فقد بلغت قروض بنك المغرب للخزينة (+2,5 مليار سنة 1983) بدل ( -13 مليار سنة 1982)، وذلك لتغطية النقص الحاصل في المداخيل العادية بنسبة (+3%) وانخفاض الطلب الخارجي على الديْن (4.6 مليار درهم سنة 1983 بدل 7.6 مليار سنة 1982). عجز الحسابات الجارية في ميزان الأداءات انخفض بشكل ملموس: 7 مليارات من الدرهم سنة 1983 أي 7,3% من الناتج الداخلي الخام مقابل 11.4 مليار درهم سنة 1982 أي 12,9% من الناتج الداخلي الخام. وتم تطوير هذه الحسابات الخاصة بتطور إيجابي في عدة مجالات أخرى حيث تنامي معدل التصدير (+41,7%) وانخفض معدل الاستيراد (-1,6%) كما تنامت تحويلات العمال المهاجرين ومداخيل السياحة. واستمر ضبط التوازنات الكبرى باللجوء لتسهيلات وتوجيهات صندوق النقد الدولي في إعادة جدولة الديون.

يظهر من خلال التقييم الأولي لتنزيل برنامج التقويم الهيكلي، أنّ الحفاظ على التوازنات المالية كان له أثر مباشر على مسار التنمية. وتأخرت كذلك عدة إجراءات إصلاحية أعلنت عليها الدولة كإصلاح القطاع البنكي، والنظام الضريبي والمقاولات المغربية. وكان أكبر متأثر بهذه السياسة/البرنامج هو القطاعات الاجتماعية الحساسة (تعليم، صحة، شبيبة ورياضة، ثقافة…)

  • وَضْعُ الاقتصاد والمالية المغربيين تحت رقابة صندوق النقد الدولي: هذا الصندوق ليبرالي الفلسفة ولكنه تحكمي على مستوى الممارسة، وقد كان مدعوًا للوقوف على تطبيق البرنامج إلى نهايته وعلى امتداد سنوات، ليتضح أن دوره ليس ظرفيا ولا عابرا. يمكن التساؤل عن طبيعة النتائج النهائية المتوخاة من البرنامج، وبمعنى آخر هل السياسات المفروضة من طرف صندوق النقد الدولي كفيلة بحل الأزمة؟

-لقد تمت صياغة برنامج التقويم الهيكلي من خطاطات كينزية قديمة، ترى في التضخم وفي الديْن الخارجي طفرة في الطلب الداخلي والعمومي، وتسعى للإجابة على الطلب المتزايد بوصفات كينزية تقليدية وتذهب في اتجاه التقشف. لقد كان للانشغالات المالية أثر كبير على القطاعين الاقتصادي والاجتماعي، حيث احتلت الرؤية التقنية مكانا مهما مع العودة لسياسة التوازنات الماكرو-اقتصادية عن طريق توجيه المداخيل الأساسية لتمويل عجز ميزان الأداءات. وفي نفس الوقت واصل صندوق النقد الدولي دفاعه الشرس عن ضرورة تحرير المبادلات التجارية، باعتبارها أفضل وسيلة لتقريب البلدان الصناعية من بلدان العالم الثالث، وعلى هذا الأساس حذر من كل تضييق على تطور المبادلات الدولية.

لذا سيقوم الصندوق بسن حزمة من الإجراءات، وفِيَّة لنهجه الاقتصادي وتدفع بالبلد في اتجاه الليبرالية والخوصصة بشكل مضطرد.

–   لقد أظهرت الممارسة الواقعية صعوبة تطبيق برامج صندوق النقد الدولي، رغم وحدتها الفلسفية والنظرية إجمالا، على بلدان مختلفة (برازيل، المغرب، الميكسيك، زايير، سينيغال…إلخ) وفي أزمنة مختلفة. لقد تم تقديم نتائج الاستقرار الذي تحقق في أمريكا اللاتينية وبعض بلدان إفريقيا باعتبارها ثَمرة لسياسات صندوق النقد الدولي، الذي أصبح رمزا للعقلنة الاقتصادية والمالية، ولو كانت ضد مصالح البلدان المعنية. كيف يمكن تفادي التقهقر الاقتصادي في ظل ضعف حظوظ نجاح البرنامج أو انعدامها، وذلك لعدة عوامل مثل (تنامي الحمائية في البلدان الصناعية، التعامل التجاري الدولي بالعملة الصعبة، تقييم الديون الخارجية بالدولار الذي لا يتوقف عن الصعود) ؟

الحل يكمن في وضع أسس سياسة جديدة لا تعير اهتماما للتوازنات بقدر ما تضع ضمن أولوياتها ضمان تنمية اجتماعية واقتصادية متسارعة، ومواجهة العوامل المُسَبِّبة للأزمات المالية والتي تُبرِز بشكل كبير ضعف أسس التنمية الاقتصادية التي لا تنفك تزيد ارتباطا بالسوق العالمية.

ونتيجة لذلك ظل مسار الديون الخارجية يتطور، ففي بداية القرن 20 كان سببا في وضع الاقتصاد الوطني تحت رقابة البنك الفرنسي-الهولندي، اليوم وبطريقة ملغومة وماكرة يمسك صندوق النقد الدولي بزمام الاقتصاد الوطني، بسبب شروطه المرفوقة بكل مساعدة مالية يقدمها للبلد، فكل مساعدة مالية من الصندوق تفرض على الدولة المستفيدة تطبيق إجراءات للهيكلة. وتم تشكيل واقع اقتصادي جديد نتيجة الانبطاح لتنفيذ توجيهات صندوق النقد الدولي، حيث فقدت البلدان سيادتها السياسية منذ منتصف القرن 20، وأصبح كل ما يوافق هَوَى البنك الدولي بالضرورة صالِح للدول المُقترِضة. فالسياسة المتبعة اليوم في علاقة الدولة المغربية بصندوق النقد الدولي تطرح علينا عدة أسئلة من الأهمية بمكان، أهمها تأثير التوجيهات المالية للصندوق على السيادة الوطنية حيث أن “رياح البنك الدولي لا تجري دائما بما تشتهيه سفن المغرب”.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى