الديون

المؤسسات المالية الدولية بين الأزمة الداخلية وتدبير أزمة الديون

ميمون الرحماني 

مع نهاية الحرب العالمية الثانية بدأ التفكير في خلق مؤسسات اقتصادية دولية، بهدف ضبط الاقتصاد العالمي والسهر على استقرار النظام النقدي الدولي  (SMI)وكذا تمويل العجز الذي يعرفه ميزان الأداءات لبعض الدول، وأيضا قصد إعادة بناء الاقتصادات التي دمرتها الحرب بواسطة قروض لتمويل مشاريع التنمية. وهكذا تم خلق صندوق النقد الدولي (FMI) والبنك العالمي (BM) في يوليوز من عام 1944، على اثر اتفاق بروتن وودز(Bretton Woods )، الذي احتضنت مفاوضاته الولايات المتحدة الأمريكية وحضرته 44 دولة في إطار الندوة النقدية والمالية الدولية للأمم المتحدة.

تتجلى المهام الأساسية لصندوق النقد الدولي في إدارة النظام النقدي الدولي وكذا منح التمويل للدول الأعضاء التي تعرف عجزا مؤقتا في ميزان الأداءات. وأما البنك العالمي فقد كلفه اتفاق بروتن وودز بمهمة إضافية تتجلى في إعادة بناء الاقتصادات ما بعد الحرب، بواسطة قروض خاصة بتمويل مشاريع التنمية. هذه الأموال الممنوحة خصت في البداية فقط الدول الأوروبية.

قراران أمريكيان سيغيران جذريا هذه الأدوار:

أولا، مخطط مارشال لعام 1948 الذي سيحل محل البنك العالمي من أجل إعادة بناء أوروبا ليترك لهذا الأخير العالم الثالث كمجال لتدخله.

ثانيا، قرار الرئيس نيكسون لعام 1971 بوضع حد لتحويل الدولار إلى ذهب، ليقتصر بذلك دور صندوق النقد الدولي على مهمته الثانية المتمثلة في منح قروض العجز التجاري. وبعد اندلاع أزمة الديون سنة 1980 سيعود الصندوق للعب دور تدبير المديونية بواسطة برامج التقويم الهيكلي. وعلى إثر الأزمات المالية منذ 1990 سيتحول صندوق النقد الدولي إلى “شبكة لإنقاذ” المستثمرين الخواص والمؤسسات المالية للدول المتقدمة، على حساب شعوب الدول الضعيفة التي سيجبرها على سداد ما بذمتها من ديون. وسيتقوى دور صندوق النقد الدولي مع الأزمة الاقتصادية العالمية التي اندلعت في 2008.

ولكن بالرغم من ذلك فإن المؤسسات المالية الدولية أصبحت في السنين الأخيرة تتخبط في عدة مشاكل داخلية فجرتها فضائح المسؤولين على تدبير شؤونها، وأضحت عرضة للاحتجاجات في العديد من الدول بسبب فشل السياسات المفروضة بالأخص على الدول النامية. مما جعل بعض الحكومات التقدمية في أمريكا الجنوبية تعلن القطيعة مع البنك العالمي وصندوق النقد الدولي، معتبرة إياهما بمؤسستين في خدمة الإمبريالية العالمية وهما أبعد من أن يخدما مصالح الشعوب المستضعفة بدول الجنوب. وأقدمت ست دول[i] على خلق “بنك الجنوب” كبديل للبنك العالمي، في أفق إنشاء صندوق الاستقرار المالي بالمنطقة يخلف صندوق النقد الدولي.

قبل التطرق للأزمة الداخلية التي تعيشها المؤسسات المالية الدولية وللدور الذي تلعبه في تدبير أزمة الديون، لا بد من التذكير بهيكلة وطريقة اشتغال كل من صندوق النقد الدولي والبنك العالمي باعتبار أن القوانين المنظمة للمؤسستين وهيكلتها هي المحددة لكيفية اتخاذ القرارات وفرض السياسات العامة على المستوى الدولي.

أولا: هيكلة وطريقة اشتغال المؤسسات المالية الدولية

1 – صندوق النقد الدولي:

تم خلق صندوق النقد الدولي للسهر على استقرار النظام المالي الدولي. وهو يشغل أزيد من 2500 شخص ويضم 187 دولة أعضاء. وتتعدى ميزانية تسييره 600 مليار دولار.

أ – أجهزة صندوق النقد الدولي :

– مجلس المحافظين:  أعلى هيئة بصندوق النقد الدولي. يجتمع مرة واحدة في السنة وهو مكلف باتخاذ القرارات ذات الأهمية كقبول انخراط دول جديدة، إعداد الميزانية… وهذا المجلس مشكل من ممثلي الدول الأعضاء (وزراء المالية أو مديري الأبناك المركزية).

– المجلس الإداري (أو المجلس التنفيذي): مكلف بالمهام التي يفوضها له صندوق النقد الدولي. هذا المجلس يتكون من 24 عضوا، من بينهم 8 لهم امتياز تعيين “متصرف” ممثلا لهم (الولايات المتحدة – اليابان – ألمانيا – فرنسا – المملكة المتحدة – العربية السعودية – الصين – روسيا ) في حين يتم تعيين 16 عضو المتبقين عن طريق “مجموعات الدول”.

ويجتمع المجلس الإداري ثلاث مرات في الأسبوع، وهو الذي ينتخب المدير العام لصندوق النقد الدولي لمدة 5 سنوات.

–  اللجنة النقدية والمالية الدوليةCMFI : تضم الـ 24 ممثلا للدول المشكلة للمجلس الإداري. وتجتمع مرتين في السنة (الدورة الربيعية والدورة الخريفية). ويتجلى دورها في إعطاء نصائح وتوجيهات لصندوق النقد الدولي فيما يخص النظام النقدي الدولي.

ب – الوحدة النقدية:

يتوفر صندوق النقد الدولي، منذ 1969، على وحدة نقدية خاصة به تنظم أنشطته المالية مع الدول الأعضاء، وتسمى ب “حقوق السحب الخاصة” (DTS). فهي إذن بمثابة عملة خاصة بالصندوق يتم تقييمها يوميا انطلاقا من عدد من العملات القوية: الدولار، الين، الأورو، الليرة الإسترلينية…

ج – حصة المساهمة:   Quote-part 

كل دولة عضو مطالبة بدفع حصة مساهمتها في رأسمال صندوق النقد الدولي. غير أن هذه الحصة ليست حرة أو تلقائية، وإنما يتم احتسابها بحسب الأهمية الاقتصادية والجيوسياسية لأي بلد. يتم دفعها بنسبة 25 % من حقوق السحب الخاصة أو أية عملة صعبة تتشكل منها، ونسبة ال 75 % المتبقية من العملة المحلية للبلد العضو.

د – اتخاذ القرارات : حق التصويت

تتخذ القرارات بصندوق النقد الدولي عن طريق التصويت. وحصة المساهمة هي التي تحدد نسبة الحق في التصويت لكل بلد. فهي تساوي 250 صوت زائد صوت واحد لكل 100 ألف من حقوق السحب الخاصة. بتعبير آخر أنها تناسب: “دولار واحد = صوت واحد”. أي لكل بلد الحق في التصويت بقدر مساهمته في رأسمال الصندوق وعلى هذا الأساس تمتلك الولايات المتحدة الأمريكية (منذ 2008) نسبة 16,76 % من حق التصويت، متبوعة باليابان ( 6,24 %) وألمانيا (5,81 %)، فرنسا (4,29 %) … وأخيرا مجموعة الدول الإفريقية التي  تترأسها الطوكو والتي تضم 24 دولة من إفريقيا السوداء، وتمثل أزيد من 233 مليون نسمة، لا تمتلك إلا نسبة 1,55 % من حق التصويت!

وقد تمكنت الولايات المتحدة الأمريكية، التي خرجت منتصرة من الحرب العالمية الثانية، أن تمرر في مفاوضات بروتن وودز قرارا ذا أهمية يقضي بفرض أغلبية 85 % لجميع القرارات المهمة التي تهم مستقبل صندوق النقد الدولي، كالزيادة في حقوق السحب الخاصة أو إلغائها، رفع أو خفض عدد المديرين (المحافظين) المنتخبين في إطار المجلس الإداري، تغيير حصة المساهمة… والولايات المتحدة الأمريكية، إذ تتوفر لوحدها على أزيد من 15 % من حق التصويت فإن بإمكانها إيقاف أية محاولة لإجراء أي تغيير بصندوق النقد الدولي (حق الفيتو).

2 – البنك العالمي:

يتشكل البنك العالمي بدوره من 187 دولة أعضاء. هيكلته مشابهة لصندوق النقد الدولي، ولكن طريقة اشتغاله تختلف نسبيا. ويضم البنك العالمي كل من البنك الدولي لإعادة البناء والتنمية(BIRD)  والجمعية الدولية للتنمية (AID) ، ويشغل ما يناهز 10 آلاف شخص بواشنطن، وحوالي 3 آلاف عامل بمائة (100) مكتب له عبر أرجاء العالم.

وتجدر الإشارة إلى أنه يجب التمييز بين البنك العالمي ومجموعة البنك العالمي. هذه الأخيرة التي تضم خمسة منظمات:

  • البنك الدولي لإعادة البناء والتنمية (BIRD) : تم خلقه لمساعدة أوربا ما بعد الحرب العالمية الثانية. غير أن دوره تطور تدريجيا مع مرور الوقت بحيث أصبح يمول التنمية بدول العالم الثالث.
  • الشركة المالية الدولية (SFI) التي ظهرت عام 1956 لتمول القطاع الخاص بالدول النامية.
  • الجمعية الدولية للتنمية (AID) تقوم منذ 1960 بتقديم قروض للدول الأكثر فقرا.
  • المركز الدولي لفض النزاعات المتعلقة بالاستثمارات (CIRDI) ظهر سنة 1966 لتدبير نزاعات المصالح.
  • الوكالة المتعددة الجنسية لضمان الاستثمارات، تم خلقها سنة 1988 لتأهيل وتشجيع الاستثمار بالدول النامية.

 

وأما فيما يخص مصطلح البنك العالمي، فإنه يضم كل من البنك الدولي لإعادة البناء والتنمية (BIRD) والجمعية الدولية للتنمية (AID) .

 ‌أ.  أجهزة البنك العالمي:

–         مجلس المحافظين: يجتمع مرة واحدة في السنة (الخريف)، ويحدد التوجهات الكبرى.

–         المجلس الإداري: يتكون من 24 عضوا حسب نفس القواعد لدى صندوق النقد الدولي. وهو مكلف بالتسيير اليومي للبنك العالمي، وينتخب مديرا عاما للبنك لمدة 5 سنوات. منصب مخصص لمرشح من أمريكا الشمالية، على عكس صندوق النقد الدولي الذي ينتخب مديرا من أوربا. وهي قاعدة ضمنية غير ديمقراطية.

‌ب.  طريقة التصويت للبنك العالمي:

توزيع الحق في التصويت ما بين الدول الأعضاء مشابه لما هو قائم بصندوق النقد الدولي، إذ يرتكز على مبدأ “دولار واحد = صوت واحد” وقاعدة أغلبية 85 % سارية المفعول أيضا بالبنك العالمي. فالولايات المتحدة الأمريكية تتمتع بسلطة الحسم في أي تغيير محتمل، بحيث تملك (منذ 2008) نسبة الحق في التصويت تصل إلى 16,07 % ، متبوعة باليابان (9,61 %)، ثم مجموعة النمسا (10 دول) بنسبة 4,58 % ، فألمانيا (4,40 %) وفرنسا (4,22 %)، في حين تتوفر مجموعة إفريقيا الجنوبية (3 دول) على نسبة 1,79 % من حق التصويت. وأخيرا مجموعة السودان (20 دولة) بنسبة 1,63 % فقط من حق التصويت.

‌ج.     طريقة اشتغال البنك العالمي:

تختلف طريقة اشتغال البنك العالمي عن صندوق النقد الدولي. فإذا كان صندوق النقد الدولي يعتمد في تقديم القروض على موارده التي يعود مصدرها لمساهمات الدول الأعضاء في رأسماله، فإن البنك العالمي يحصل على الإمدادات المالية الضرورية لتقديم القروض من الأسواق المالية. فهو يحصل على الأموال من الدول الغنية بنسب فائدة مشجعة، ويمنح قروضا للدول المحتاجة بنسب مرتفعة نسبيا لمدة تتراوح ما بين 15 و 20 سنة.

ثانيا: المؤسسات المالية الدولية تجاوزت سن التقاعد ودخلت مرحلة الأزمة

تتخبط المؤسستان الماليتان الدوليتان في عدة مشاكل يمكن إجمالها في أزمة داخلية سببتها فضائح كبار المسؤولين، من جهة، وفقدانها للشرعية على المستوى الخارجي، من جهة أخرى، بعد أزيد من 60 سنة من السياسات والمخططات الإمبريالية التي لم تكن تخدم سوى مصالح أمريكا وحلفائها من كبار الدول المصنعة وشركاتها المتعددة الجنسية. وكذا مصالح الدكتاتوريات الموالية لها بإفريقيا وباقي دول العالم الثالث.

1-   الأزمة الداخلية

إعلان استقالة رودريغو راتو -Rodrigo Rato  من منصبه كمدير عام لصندوق النقد الدولي في يونيو 2007، أسابيع قليلة فقط بعد خروج بول وولفوفيتز- Paul  Wofowitz  من رئاسة البنك العالمي يؤكد على عمق أزمة المؤسستين الماليتين الدوليتين، إحدى الركائز الأساسية للعولمة الليبرالية.

ما بين أبريل ويونيو 2007 عاش البنك العالمي على إيقاع فضيحة مالية كان مسرحا لها رئيس البنك نفسه. بول وولفوفيتز منح تعويضات مالية إضافية خيالية (فاقت 45 % !) لصديقته شاها ريزا – Shaha Riza –  موظفة بالبنك. اضطر على إثر ذلك، و بعد تردد طويل ومفاوضات عسيرة بالمجلس الإداري للبنك ترك منصبه (رغم دعم جورج بوش له) لفائدة روبير زيليك[ii]  Robert Zoellick

وما كادت تهدأ فضيحة البنك العالمي حتى اهتز صندوق النقد الدولي بإعلان مديره العام استقالته خلال شهر يوليوز 2007، سنتين قبل انتهاء مدة انتدابه !

رودريغو راتو أرجع استقالته “لأسباب شخصية”. غير أنها ليست المرة الأولى التي يحدث فيها مثل هذا الأمر. في 2004 استقال الألماني هورست كولر- Horst Köhler من منصبه كمدير عام لصندوق النقد الدولي ليترشح لمنصب المستشار الألماني. وقبل ذلك بسنتين (عام 2002) كان الفرنسي ميشال كاندوسيس- Michel Camdessus   قد اضطر لمغادرة نفس المنصب بسبب الأزمة المالية الأسيوية وما أقدم عليه جراء ذلك صندوق النقد الدولي من  إجراءات اقتصادية أدت إلى تفاقم البطالة التي مست 20 مليون منصب شغل إضافي. وكان آخر هذه الفضائح استقالة دومنيك ستروس كاهن (DSK) [iii] من إدارة الصندوق في 19 ماي 2011 بعد اتهامه بالتحرش الجنسي على عاملة من أصول إفريقية بفندق بنييويورك، سنتين أيضا قبل انتهاء مدة ولايته.

ولعل المتتبعين للشأن المالي العالمي سيلمسون لا محالة أن صندوق النقد الدولي، وكذا البنك العالمي، يعيشان أزمة شرعية بعد فشل سياساتهما على مدى الستة عقود الماضية.

2-   المؤسسات المالية الدولية تعيش أزمة شرعية

أصبحت المؤسسات المالية الدولية تفقد شرعيتها تدريجيا بسبب الفشل الذريع لسياساتها وخياراتها الاقتصادية، ولتدخلها في الشؤون الداخلية للعديد من الدول. مما أثار احتجاج العديد من المنظمات غير الحكومية والحركات الاجتماعية العالمية، وصل الأمر إلى حد المطالبة بمحاكمة البنك العالمي.

ومن بين ما أقدمت عليه المؤسستان من خيارات فاشلة يمكن ذكر:

–         استعمال الديون، خلال الحرب الباردة، لأغراض جيواستراتيجية لدعم حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية. وخاصة الأنظمة الدكتاتورية في بعض الدول: بينوشي بالشيلي، موبوتو بالزايير، سوهارتو بأندوسيا، فيديلا بالأرجنتين، نظام الأبرتايد بجنوب إفريقيا… وهو ما مكن هذه الدكتاتوريات من تحويل أموال كثيرة لحساباتها الخاصة. ولا زال البنك العالمي يدعم أنظمة مماثلة في التشاد، الكونغو، الكامرون، باكستان وغيرها.

–         تحويل ديون الاستعمار إلى ديون في ذمة الدول المستقلة، في خرق سافر لمقتضيات القانون الدولي.

–         جزء هام من القروض الممنوحة من طرف صندوق النقد الدولي والبنك العالمي استعمل لتنفيذ سياسات الامبريالية العالمية بهدف السيطرة على ثروات الجنوب: بناء سدود ضخمة[iv] ، صناعة استخراجية، توجيه الإنتاج الفلاحي نحو التصدير والتخلي على السيادة الغذائية…

–         بعد اندلاع أزمة المديونية مع مطلع الثمانينات فرض صندوق النقد الدولي، بدعم من الدول العظمى والبنك العالمي، سياسات التقويم الهيكلي التي أدت تدريجيا إلى تقليص حجم الميزانيات الاجتماعية، إلغاء دعم المواد الأساسية، خوصصة الخدمات العمومية، تحرير الاقتصادات الوطنية والقضاء على المنتجين المحليين أمام المنافسة الشرسة للشركات المتعددة الجنسية، تطبيق سياسات جبائية خلق تفاوتات اجتماعية خطيرة… مما أدى إلى تفاقم حدة الفقر والمجاعة والبطالة وتدهور الأوضاع الاجتماعية في العديد من الدول.

–          مواصلة المؤسستان الماليتان نهج سياسة إنتاج الفقر والإقصاء في الدول النامية، بدل محاربته كما يدعي ذلك البنك العالمي. وهكذا تضاعف عدد الأشخاص الذين يعيشون بأقل من دولار واحد في إفريقيا منذ 1981. وأكثر من 925 مليون شخص في العالم يعانون من المجاعة في 2010، الثلثين منهم يوجدون في سبعة دول هي البنكلاديش، الصين، الكونكو الديمقراطية، إثيوبيا، الهند، أندنوسيا والباكستان  . وأما أمل الحياة فقد نزل عن حاجز 45 سنة !

–         فرض سياسات وبرامج تقشفية (شبيهة ببرامج التقويم الهيكلي لدول الجنوب) بدول الشمال التي تأثرت بالأزمة الاقتصادية العالمية، وبخاصة إيرلاندا واليونان التي هي على حافة الإفلاس والبرتغال وإسبانيا وغيرها.

–         و أخيرا، و بالرغم من الخطابات الرنانة والادعاءات الكاذبة في قمم الثمانية الكبار وقمم مجموعة العشرين (G20) وغيرها من اللقاءات الدولية كتقليص ديون الدول الأكثر فقرا ورفع حجم الإعانات الدولية للتنمية، فإن ديون دول العالم الثالث في ارتفاع مستمر[v]. كما لم يتم إيجاد مخرج من أزمة الديون. فسنويا تسدد حكومات الدول النامية أكثر من 173 مليار دولار كخدمات دين، وهو رقم يساوي أكثر من ضعف ما تحتاجه هذه الدول لتحقيق أهداف الألفية للتنمية. وبالرغم من تراجع حجم الديون العمومية الخارجية لبعض الدول فإن الديون العمومية الداخلية في تزايد مستمر[vi].

 

في ظل هذه الأوضاع تطالب بعض المنظمات غير الحكومية بإصلاح هاتين المؤسستين وإعادة النظر في طريقة اشتغالها وهيكلتها. وما إلى ذلك كالرفع من حصة مساهمة بعض الدول ودمقرطة طريقة التصويت واتخاذ القرارات. غير أن الحركات الاجتماعية العالمية وبعض الشبكات الدولية التي تشتغل على محور الديون والمؤسسات المالية الدولية تطالب بتغيير راديكالي في الهيكلة المؤسساتية الدولية بالبحث عن بدائل لهاته المؤسسات الامبريالية. وهو نفس الطرح الذي دأبت عليه بعض الدول بأمريكا اللاتينية باقتراحها لمؤسسات بديلة.

ثالثا: المؤسسات المالية الدولية وتدبير أزمة الديون

أزمات الديون عبر التاريخ كانت دائما مسبوقة بأزمات اقتصادية بالدول الصناعية المتميزة أساسا  بفائض في الرساميل. وعموما فالأزمة تكون ناتجة عن ركود أو انكماش اقتصادي، أو عن صدمة تضرب الاقتصادات الصناعية الأساسية: الأزمة الأولى في 1826 نتجت عن صدمة مالية ضربت بورصة لندن في دجنبر 1825، والأزمة الثانية انفجرت سنة 1873 تبعا لصدمة بورصة فيينا مسبوقة بصدمة أخرى بنيويورك. والأزمة الثالثة في 1931 جاءت تبعا لصدمة ناتجة عن أزمة وول ستريت « Wall Street »  في 1929. وأخيرا الأزمة الرابعة لسنة 1982 نتجت ، من جهة ،عن الركود الاقتصادي العالمي الثاني مند الحرب العالمية الثانية 1980-1982، ومن جهة أخرى، بسبب ارتفاع سعر الفائدة التي قررته الخزينة الأمريكية سنة 1979. هذه الأزمات الأربعة دامت كلها ما بين 15 و30 سنة.

الأزمة الحالية للمديونية هي الأخرى بدأت بوادرها مع الهزات التي عرفتها بورصة “وول ستريت” والبورصات العالمية في 2007، والانكماش الاقتصادي الكبير بعد اندلاع الأزمة المالية العالمية في 2008 والتي تحولت إلى أزمة اقتصادية هي الأخطر والأكبر بعد الأزمة العالمية لسنوات الثلاثينات.

أزمة المديونية لسنوات الثمانينات كانت بمثابة منعرج بالنسبة للمؤسسات المالية الدولية، التي أصبحت تتدخل في شؤون الدول النامية بالأساس وتتحكم في سيادتها عن طريق فرض برامج وإجراءات اقتصادية وسياسية لم تكن تخدم سوى مصالح الدول العظمى وشركاتها المتعددة الجنسية. فقد تغيرت مهام المؤسسات المالية الدولية بشكل جذري وأصبحت متشابهة، فمنذ 1980 نهجت المؤسسات استراتيجية تهدف إلى التقليص من دور الدولة إلى أدنى حد، عن طريق خوصصة المؤسسات العمومية، وإزالة كل  تدخل للحكومات في الاقتصاد. فمن أجل تدبير أزمة الديون يتدخل صندوق النقد الدولي بواسطة “قروض الإنقاذ”، ولكن أيضا بفرض شروطه عبر برامج التقويم الهيكلي. وأما البنك العالمي فيلعب دور “المستشار” للدول الخاضعة ل “العلاج الطبي” لصندوق النقد الدولي حول الطريقة المثلى لخفض العجز في الميزانية، تعبئة الادخار الداخلي، تحفيز المستثمرين الأجانب وتشجيع الاستثمارات الخارجية، تحرير الصرف والأثمنة، خوصصة المقاولات العمومية، إلخ. وبالإضافة إلى ذلك فإن البنك العالمي يساهم في برامج التقويم الهيكلي عبر تقديم قروض بشروط قاسية للدول الأعضاء.

وهكذا أصبحت المؤسستان الماليتان في موقع قوة ولا تتوانيان لحظة في فرض شروطهما على الدول في إطار برامج التقويم الهيكلي، والضغط عليها لتطبيق إجراءات من قبيل تحرير اقتصادياتها، وبخاصة التخلي عن مراقبة حركة رؤوس الأموال وإلغاء مراقبة الصرف، خوصصة المقاولات العمومية، وما إلى ذلك مما أدى إلى تراجع الدولة عن القطاعات الإنتاجية التنافسية. فحسب منطق صندوق النقد الدولي “لا مكان للدولة أينما يمكن تحقيق ربح” وعليها أن تنسحب من جميع القطاعات المدرة للربح (الماء، الكهرباء، النقل، تكنولوجيا الإعلام والاتصال، الصحة، التعليم…) وتقتصر على القمع وضبط الاستقرار (الأمن، العدالة).

إن مسألة الخوصصة ينظر إليها من داخل صندوق النقد الدولي والبنك العالمي بمنظور إيديولوجي: تسريع الخوصصة، الأمر الذي أدى في الكثير من الحالات إلى خوصصة بعض الخدمات حتى قبل وضع الإطار القانوني لضمان المنافسة الحرة والنزيهة. وعموما تتم الخوصصة، التي غالبا ما يستفيد منها المستثمرون الأجانب، بواسطة مراسيم بدون موافقة البرلمان ودون أدنى استشارة للمنظمات والحركات الاجتماعية والمواطنين.

كما أصبح صندوق النقد الدولي، منذ اندلاع الأزمة الاقتصادية العالمية الأخيرة في 2008، يتدخل في شؤون الدول المتقدمة أيضا عن طريق فرض برامج التقشف همت أساسا مجموعة من الدول الأوربية كاليونان وإيرلاندا والبرتغال وإسبانيا وبعض الدول في أوربا الشرقية. وهذه المخططات التقشفية هي شبيهة إلى حد ما ببرامج التقويم الهيكلي المفروضة على دول الجنوب منذ أزمة الديون في بداية الثمانينات.

 


[i] – يتعلق الأمر بالأرجنتين، فنزويلا، بوليفيا، الإكواتور، الباراغواي و البرازيل. التحق بها في ما بعد كل من كوانا، سورينام والأوروغواي.

[ii] – بول وولفوفيتز نائب كاتب الدولة الأمريكي في الدفاع وأحد مدبري عمليات اجتياح أفغانستان في 2001 والعراق في 2003   (حرب الخليج  الأولى). وأما خلفه روبير زيليك فهو مهندس اتفاق التبادل الحر بين أمريكا وكندا والمكسيك وقاد المفاوضات حول اتفاق التبادل الحر بين المغرب والولايات المتحدة الأمريكية.

[iii] – خلفته كريستين لاكارد ابتداء من 1 يوليوز 2011، وهي تتقاضى راتبا شهريا صافيا يصل إلى 45975 دولار.

–  مثال سد إينغا الشهير بالكونغو الديمقراطية.[iv]

–  بلغت الديون الخارجية لدول العالم الثالث مع متم 2009: 3545 مليار دولار، منها 1460 مليار دولار كديون عمومية خارجية.[v]

[vi] – في 1998 كان حجم الديون العمومية الخارجية يساوي تماما حجم الديون العمومية الداخلية. وفي 2006 أصبحت الديون العمومية الداخلية تساوي ثلاث مرات حجم الديون العمومية الخارجية.          

 

زر الذهاب إلى الأعلى