الديون

قيم حضارة جديدة؟؟

 فرآي بيطو* وميكاييل لوي*

   كتب هذا النص بطلب من اللجنة التنظيمية للمنتدى الاجتماعي العالمي ببورتو أليجري كارضية للنقاش في جلسته العامة.

   الدولار، الاورو، الين تلك هي القيم الثلاث ل كريدو دافوس-نيويورك ورغم أن كل واحدة من القيم لا تخلو من تناقضات، فإنها تشكل مجتمعة معيار القيم النيوليبرالية المعولمة. والميزة الرئيسية المشتركة بين هذه القيم الثلاث هي طبيعتها الكمية المحضة: إنها لا تعرف الخير والشر ولا العدل والظلم إنها لا تعرف إلا الكميات، الأرقام والأعداد، إن من يمتلك مليار من الدولارات، أو الاورو، الين، أكثر قيمة من ذلك الذي يمتلك مليون، وأكثر قيمة بكثير من ذلك الذي لا يمتلك إلا ألف، وبالطبع فان من لا يملك شيئا أو لا شيء تقريبا، فلا قيمة له حسب معيار قيم دافوس-نيويورك. انه كما لو انه غير موجود، انه خارج السوق إذن خارج العالم المتحضر.

  تشكل هذه القيم الثلاث في مجموعها إحدى آلهة الديانة الاقتصادية الليبرالية: النقد أو مامون Mammon كما يقال بالآرامية Aramaique، الإلهان الآخران هما السوق والرأسمال، يتعلق الأمر بأصنام ومعبودات، موضوعات عبادة متعصبة خاصة، لا متسامحة ودوغمائية.

 هيمنة السلعة، كما يقول ماركس أو عبادة السوق – حسب تعبير أصحاب لاهوت التحرير هيجو أصمان فرانز هينكلاميت – والمال والرأسمال لها عبادتها وكنائسها (البورصات) وقديسوها (صندوق النقد الدولي، منظمة العالمية للتجارة…الخ) ومطاردة هراطقتها (نحن جميعا الذين نؤمن بقيم أخرى).

  حضارة المال والرأسمال هذه تحول كل شيء إلى سلعة – الأرض، الماء، الهواء، الحياة، المشاعر والقناعات – تباع إلى من يعطي أكثر، في مقابل هذه الحضارة الكونية التي تجعل كل شيء تجاريا، يعبر المنتدى الاجتماعي العالمي قبل كل شيء عن رفض “العالم ليس سلعة” أي أن الطبيعة، الحياة، حقوق الإنسان، الحرية، الحب، الثقافة ليست سلعا، غير أن بورتو أليغري تجسد أيضا نمط آخر من الحضارة، يتأسس على قيم أخرى غير المال والرأسمال، مشروعان حضاريان، ومعياران للقيم يتواجهان بطريقة تناحرية وغير قابلة للمصالحة على عتبة القرن 21.

 ماهي القيم التي سيمثلهما هذا المشروع ؟ يتعلق الأمر بقيم كيفية، نوعية، أخلاقية، سياسية، اجتماعية وثقافية، وغير قابلة للاختزال في تكميم نقدي قيم مشتركة بين أغلب مكونات المجموعات والشبكات المشكلة للحركة الكبرى المعادية للعولمة النيوليبرالية.

يمكن أن ننطلق من القيم الثلاث التي ألهمت الثورة الفرنسية 1789 والحاضرة منذ ذلك الحين في كل حركات التحرر الاجتماعي في تاريخ الحديث: الحرية المساواة والإخاء. وكما يشير ارنست بلوخ في كتابه “الحق الطبيعي والكرامة الإنسانية” (1961) فان هذه المبادئ التي سجلتها الطبقة المسيطرة على واجهات المباني العمومية في فرنسا لم تعمل قط على تجسيدها على مستوى الممارسة، يشير ماركس إلى انه تم استبدال هذه المبادئ ب “الفرسان والمشاة والمدفعية…” إنها تشكل جزء من تقليد الشغب غير المكتمل (تقليد عدم اكتمال المشاغب) جزء مما لم يوجد بعد، من الوعود التي لم يتم الوفاء بها.

إذا نظرنا إلى هذه المبادئ عن قرب، من نظر ضحايا النظام، سنكتشف امكاناتها التعبيرية وكم هي راهنية في صراع اليوم ضد تبضيع العالم mercantilisation.

ماذا تعني الحرية؟ إنها تعني قبل كل شيء حرية التعبير، والتنظيم، التفكير، النقد، التظاهر، التي تم اكتسابها بقساوة عبر قرون من النضالات ضد الحكم المطلق، والفاشية والديكتاتوريات لكنها تعني أيضا الآن وأكثر من أي وقت مضى الحرية في علاقاتها مع تشكل آخر من الحكم المطلق: انه ديكتاتورية الأسواق المالية، ونخب البنكيين ورؤساء الشركات المتعددة الجنسيات الذين يفرضون مصالحهم الخاصة على الكوكب بكامله.

 إنها ديكتاتورية إمبراطورية – تحت الهيمنة الاقتصادية والسياسية والعسكرية للولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة والشاملة – تختفي وراء “قوانين السوق” المجهولة والعمياء، وتفوق قوتها العالمية بكثير قوة الإمبراطورية الرومانية أو الإمبراطوريات الاستعمارية في الماضي. إمبراطورية قائمة على منطق الرأسمال وتعرض نفسها بمساعدة مؤسسات لا ديمقراطية (بشكل عام) كصندوق النقد الدولي والمنظمة العالمية للتجارة وتحت تهديد ذراعها المسلح لحلف الأطلسي OTAN.

لم يعد مفهوم “التحرر الوطني” كافيا لترجمة المعنى الراهن للحرية، والتي هي محلية وفي نفس الوقت وطنية وعالمية، وكما أوضحت ذلك الحركة الزباطية باعتبارها حركة أصيلة ومجددة.

كان إقصاء النساء من المواطنة إحدى الحدود الكبرى للثورة الفرنسية في 1789. لقد تم إعدام اولمب دي غوج Olampe de Gouge التي كتبت إعلان حقوق المرأة والمواطنة في 1793. لا يمكن للمفهوم الحديث للحرية أن يتجاهل اضطهاد هذا الجنس الذي يمثل نصف الإنسانية ولا أن يتجاهل الأهمية الفائقة لنضال النساء من اجل تحررهن. ويأخذ حق النساء في التعرف بأجسادهن كامل معناه في إطار هذه المعركة.

ما الذي تعنيه المساواة ؟ في الدساتير الثورية الأولى، كان المقصود المساواة أمام القانون هذه المساواة (أمام القانون) هي قطعا ضرورية – لا سيما أنها لا توجد في عالم اليوم – لكنها غير كافية. إن المشكل العميق هو اللامساواة المرعبة بين الشمال وجنوب الكوكب، وداخل كل بلد بين نخبة صغيرة تحتكر السلطة الاقتصادية ووسائل الإنتاج، وبين الأغلبية الساحقة من السكان التي تعيش من قوة عملها حينما لا تكون معطلة ومقصية من الحياة الاجتماعية.

 إن المساواة الاقتصادية ليست هي الشكل الوحيد للظلم في المجتمع الرأسمالي الليبرالي: مطاردة الأوراق القانونية في أوروبا، وإقصاء أحفاد العبيد السود والسكان الأصليين في أمريكا، واضطهاد ملايين الأشخاص الذين ينتمون إلى بعض الطوائف في الهند، بالإضافة أشكال العنصرية أو التمييز حسب لون البشرة، أو الدين، أو اللغة، وهي أشكال حاضرة في شمال وجنوب الكوكب.

  ما الذي تعنيه الإخاء ؟ انه التضامن لا مع الإخوة فقط بل أيضا الأخوات، انه تضامن يتجاوز حدود العشيرة، والقبيلة، والجماعة الدينية، العائلة والوطن ليصبح تضامنا كونيا، عالميا، دوليا، وبعبارة أخرى أمميا بالمعنى الذي أعطته أجيال كاملة من مناضلي الحركة العمالية والاشتراكية لهذه القيمة.

تنتج العولمة النيوليبرالية وتعيد إنتاج الصراعات القبلية والاثنية، حروب التطهير العرقي، التوسعات الحربية، الأصولية الدينية المتعصبة، كراهية الأجانب، هذه المخاوف Paniques الناجمة Induite عن إحساس بفقدان الهوية هي الوجه الآخر للعملة، إنها المكمل Complement المتحوم للعولمة الإمبراطورية.

إن الحضارة التي نحلم بها، هي حضارة “عالم يتضمن عوالم أخرى” (حسب التعبير الرائع للزباطيين) حضارة عالمية للتضامن والتنوع.

في مواجهة التوحيد التجاري (الميكانيكي) والكمي للعالم، وفي مواجهة الكونية الرأسمالية الزائفة، من المهم أكثر من أي وقت مضى إعادة التأكيد على الغنى الذي يمتلكه التنوع الثقافي والمساهمة الفريدة لكل شعب، كل ثقافة، وكل فرد.

هناك قيمة أخرى لا يمكن فصلها منذ 1789 عن الثلاثة الأخريات: إنها الديمقراطية. التحدي الأكبر، من وجهة نظر مشروع مجتمعي بديل، هي توسيع الديمقراطية لتشمل المجال الاقتصادي والاجتماعي. لماذا نسمح لهذا المجال بسلطة خاصة لنخبة ونرفضها عن الميدان السياسي ؟ تعني الديمقراطية الاجتماعية إن اختيارات السوسيو اقتصادية الكبرى، والاولويات فيما يتعلق بالاستثمارات، والتوجهات الأساسية فيما يتعلق بالإنتاج والتوزيع، كلها خاضعة لنقاش ديمقراطي وتحدد من طرف السكان أنفسهم، وليس من طرف حفنة من المستغليين أو “قوانين السوق” الزائفة أو أيضا من طرف مكتب سياسي كلي القدرة.

يتعين علينا أن نضيف إلى هذه القيم الكبرى الناتجة عن التاريخ الثوري الحديث قيمة أخرى، وهي القيمة الأقدم والأحدث في نفس الوقت: احترام البيئة: نجد هذه القيمة نمط حياة القبائل الأصلية في الأمريكيتين، والجماعات القروية الماقبل رأسمالية في العديد من القارات، ولكن أيضا في مركز اهتمام الحركة الايكولوجية الحديثة. فالعولمة الرأسمالية مسؤولة عن التدمير والتسميم المسارع والمطرد للبيئة.

إن حضارة التضامن لا يمكن أن تكون إلا حضارة التضامن مع الطبيعة، لان النوع الإنساني لا يمكن أن يعيش إذا ما اختل التوازن البيئي الكوكب. إن تعداد هذه القيم ليس شاملا. كيف نلخص في كلمة واحدة ومجموع هذه القيم الحاضرة بشكل أو بآخر في الحركة المناهضة للعولمة الرأسمالية، وفي مظاهرات الشوارع من سياتل إلى جنوة، وفي نقاشات المنتدى الاجتماعي العالمي؟ إننا نعتقد أن تعبير حضارة التضامن هو تلخيص جيد لهذا المشروع البديل.

ولا يعني ذلك مجرد بنية اقتصادية وسياسية مختلفة جذريا، بل على الخصوص مجتمعا بديلا يختفي بأفكار الخيرات المشتركة والمنفعة العامة والحقوق الكونية والمجانية. إن عالما آخر ممكن، عالم يتأسس على قيم أخرى تتعارض جذريا مع قيم المسيطرة اليوم.

بيد إننا لا نستطيع أن ننسى أن الغد يبدأ من هنا والآن: تتجسد هذه القيم مسبقا في المبادرات التي توجه حركتنا اليوم، إنها تلهم الحملة ضد الديون العالم الثالث ومقاومة مشاريع المنظمة العالمية للتجارة، والنضال ضد الأجسام المعدلة وراثيا، ومشاريع فرص ضريبة على المضاربات المالية إنها حاضرة في النضالات الاجتماعية، والمبادرات الشعبية أو تجارب التضامن، والتعاون والديموقراطية التشاركية: من النضال من اجل البيئة سليمة لفلاحي الهند إلى الميزانية التشاركية في “آبوجراندي دوسول”، من النضال من اجل الحق في التنقيب في كوريا الجنوبية إلى اضرابات فرنسا من اجل الدفاع عن الخدمات العمومية، من قرى الزباطيين في شياباس إلى مخيمات(compement) الفلاحين دون أرض.

يبدأ الغد هنا الآن، في بذور هذه الحضارة الجديدة التي نزرعها عبر نضالاتنا ومجهوداتنا، حتى ينهض نساء ورجال جدد من هذه القيم الذاتية والأخلاقية التي نحملها على عاتقنا في حياتنا النضالية.

 

 

* فرآي بيطو: احد رجالات لاهوت التحرير وكاتب برازيلي.

* ميكاييل لوي: مدير أبحاث في المركز الوطني للأبحاث العلمية                                 تعريب: أطاك المغرب مجموعة آسفي

 

زر الذهاب إلى الأعلى