الديون

العولمة و هدر كفاءات الشباب

    اختزل تكتل الأدمغة Braintrust المجتمع في مدينة سان فرانسيسكوا في العام 1995 ، بتنظيم من كورباتشوف، المستقبل في عددين 20 و 80 ، أو بصيغة أخرى عشرين على ثمانين . كان هذا التكتل يحاول في اجتماعه المغلق ، الذي اقتصر على نخبة من الأدمغة المستقبلية ، تحديد معالم الطريق إلى القرن الحادي و العشرين . و لقد رأى أن الطاقة البشرية القادرة على العمل ستتوزع مستقبلا بين 20% يعملون و 80%  عاطلين عن العمل . و لقد قدر خبراء عدد من الشركات العملاقة ، أن خمس قوة العمل الحالية ستكفي لسد احتياجات الخدمات رفيعة القيمة التي تحتاج إليها العولمة ؛ وهو ما أطلق عليه بعضهم تسمية ( مجتمع الخمس) ، أي أن خمس الطاقة البشرية ستعمل و تحصل على كل شيء ، بينما لا تحصل الأخماس الأربعة الباقية إلا على الفتات ( مارتين و شومان ، فخ العولمة ، سلسلة عالم المعرفة عدد 238 سنة 1998). ويتمشى مع هذا الاتجاه قول جون نسبت ، و هو من المستقبليين المعروفين بدقة تنبؤاتهم ، بأن عصر الرفاه الاجتماعي ، الذي أنتجه المجتمع الصناعي ليس سوى حدث عابر في التاريخ الاقتصادي . ذلك أن دولة الرعاية و التقديمات الاجتماعية التي عرفها الغرب ، لم تكن سوى الثمن الذي تعين على المجتمعات الصناعية الرأسمالية دفعه لمقاومة الشيوعية ، و حيث إن هذه قد تلاشت ، فلم يعد هناك مبرر لتحمل نفقات الرعاية . فدولة الرعاية قد أصبحت بائدة ، نظرا لتكاليفها الباهظة التي ، في رأي هؤلاء الخبراء ، تعيق القدرة التنافسية المتصاعدة في الأسواق المفتوحة . و عليه فلقد أصبح  قدرمن  اللامساواة  الاجتماعية أمرا لا مناص منه ، خدمة لأممية رأس المال التي حلت محل أممية البروليتاريا . فأممية رأس المال و ديكتاتورية السوق ترفعان شعار الربح الآني ، كهدف واحد وحيد، في عصر المنافسة المفتوحة التي يجب أن تسخر لها كل الإمكانات ، و تزاح من أمام انطلاقتها الكاسحة كل الضوابط و القيود .

    و تُدفع الدول على اختلافها للاستسلام لشروط أبطال السوق المالية و الشركات العملاقة ، المتمثلة في صدارة أرباح المساهمين على كل ما عداها من اعتبارات . و إلا فإن تهديد سيف هروب الاستثمارات خارج الحدود ، أو تهديد مالية الدول الوطنية من خلال المضاربة بعملتها أوسندات خزينتها جاهز لكي يضرب ضربته . و تكون النتيجة ليست فقط التخلي عن دولة الرعاية و تقديماتها للطفولة و الكهولة و الشباب، بل الوقوع في حالة العجز عن وقف عمليات تسريح العمالة الوطنية بحجة كلفتها المؤذية للتنافس . لقد أصبح معيار الكفاءة الإدارية في الشركات الكبرى ، يتمثل في مقدار النجاح في عمليات الدمج و الاستغناء عن العمالة الوطنية ، تحقيقا لشعار ” رفع الجدارة” . و المقصود برفع الجدارة الوطنية تخفيض كلفة الإنتاج من خلال تحجيم العمالة و استبدالها بعمالة رخيصة من خارج الحدود ، تعمل في ظروف شبه استعبادية في بلدان العالم الثالث لصالح الشركات العملاقة ، بدون الحاجة إلى استيرادها . تشغل هذه الشركات العمالة الفنية أو اليدوية في موطنها الأصلي عن بعد. إنها ببساطة كما يقول أحد هؤلاء الإداريين ، تأخذ أفضل المهارات و المواهب بدون أي التزامات تجاهها على صعيد الضمانات الاجتماعية ، أو ضمان استمرارية الوظائف . و هكذا تتزايد جحافل العاطلين عن العمل في كل مكان . و هو أمر مطلوب من أجل التحكم في سوق العمالة و فرض شروط عمل أدنى . كما أنه مطلوب لتفكيك الهيئات النقابية التي تدافع عن حقوق العمال من ناحية ، و تعطيل تدخل الحكومات من الناحية الثانية . و هكذا فشعار ” ليس هناك قوة عمل لا يستغنى عنها ، أو مهارة فنية لا يستغنى عنها” هو الذي يتألق أكثر فأكثر . و معه تتزايد أعداد العاملين المِؤقتين و العاملين بالمهمة ( على غرار المياومين و العاملين بالقطعة) ، و الذين ليس لهم حقوق أو ضمانات عند انتهاء مهمتهم ، المهم في ذلك كله أن تدر الأسهم أكبر الأرباح على المساهمين ، و إلا تحولوا إلى أسهم شركات أخرى أكبر مردودا . و أما العمالة الوطنية و استفادتها من الثروات الوطنية فعليها السلام.

    يتطلب تعظيم أرباح الأسهم تبني سياسة ” قتل الكلفة” Cost Kiling الذي يطبقه اقتصاد السوق و الذي يتمثل في ثلاثية : إعادة الهيكلة الوظيفية و الإنتاجية ( من دمج و سواها ) ؛  Reingeneering؛ و تخفيض العمالة Downsizing؛ و الاستعانة المتزايدة بالعمالة الخارجية رخيصة الثمن Outsourcing  Turner,2002 )) . و من أجل أرباح الأسهم تدفع وكالات العولمة و مراكزها للتبشير و الضغط ( البنك الدولي، صندوق النقد الدولي ، اتفاقات التجارة الدولية ،     وكالات التنمية الدولية ) إلى إنهاء الضمانات الوظيفية ، و تحرير الأسواق بالقضاء على دولة الرعاية . أصبحت الشركات الكبرى ( أقطاب السوق المعولم ) تتطلب أقصى درجات الالتزام من قبل العاملين لديها و حكوماتهم ، بدون أن تلتزم هي من جانبها بأي ضمانات وظيفية لهؤلاء ، مضافا إليه حرمان الحكومات من حقوقها الضريبية الوطنية .

      الغرم الذي يقع على الشباب ، جراء هذه السياسات ، ليس أقل خطورة من الغرم الذي يقع على الشرائح الأكبر سنا . فالعولمة من حيث التعريف على مستوى العمالة ، كما الاستهلاك و الثقافة . و لا يقتصر الغرم على الشباب في بلدان التكنولوجيا المتقدمة ، بل أصبح يطال النخب الشبابية ذات الكفاءات العليا . فهذه النخب هي أداة السوق المعولم و الإنتاج العابر للقارات . إلا أن عمرها التشغيلي يتزايد في انكماشه و قصره . تستقطب هذه الكفاءات بأجور مغرية أحيانا ، و تشغل بشكل استنزافي كامل تحت شعار الإنتاجية القصوى ضمانا للتنافس . و يثم استهلاكها في وقت قياسي ، كي يثم الاستغناء عنها من خلال كفاءات شابة طازجة . و هكذا تدفع إلى الهامشية الوظيفية ، و العمالة المؤقتة و المتقلبة و غير المضمونة ، و هي لازالت في مقتبل العمر. أو هي تنضم إلى القطعان العاملة لدى وكالات العمالة تحت الطلب و التي أصبحت بدورها تمر بمرحلة ازدهار متزايد .

     لقد أضحت العولمة الاقتصادية / المالية غولا يلتهم الكفاءات الفائضة عن الحاجة، أو الزائدة عن المطلوب، مما ينطبق عليه مفهوم” الناس المتكررين” Redundant people ( مارتين و شومان ” فخ العولمة” ) و هو تعبير بدأ يشيع في أدبيات سوق عمالة العولمة ، بعد أن تمت استعارته من أدبيات التنمية التي تصنف البلدان إلى فائقة النمو ، و نامية ، و في طور النمو ، و ما دون النمو، وهي البلدان المستغنى عنها أو التي لا تدخل في الحسبان . إضافة إلى البطالة المقصودة من خلال سياسة قتل الكلفة ، تؤدي العولمة إلى هدر الكفاءات و الطاقات لسببين يفاقمان من هذه الحالة .

   أما أولهما فهو تسارع التحولات في التكنولوجيا المتقدمة مما يجعل الكثير من المهن معرضة للزوال ، أو هي تضع العاملين فيها في قلق دائم من الوصول إلى حالة تصبح معها تخصصاتهم بائدة و عديمة القيمة في سوق العمل . ذلك تراكم الخبرة الفنية لم يعد يشكل ضمانة لاستمرار العمل بالضرورة ، مع بروز تقنيات جديدة في المجال نفسه ، مقطوعة الصلة تماما بالتقنيات السابقة عليها . وبذلك يتساوى المستجد  في المجال مع صاحب الخبرة . لقد ولى عهد المهن المتخصصة و المستقرة أو هو في طريقه إلى الأفول ، في قطاعات متزايدة من الأعمال . و يذهب بعض الخبراء إلى أن 75   %من  السلع المتداولة حاليا مما يرتبط بتكنولوجيا المعلومات و الالكترونيات الدقيقة لم تكن معروفة قبل عقدين من الزمان ، كما أن نصف المهن المستقبلية لا نعرف عنها حاليا شيئا ( الشريف، 1999)

   لقد ولى عهد المسار الوظيفي المستقر الذي يعرف نقطة بداية و تدرجا منتظما ، خلال عدة محطات وظيفية وصولا إلى التقاعد . العمل في المستقبل سيكون أقرب إلى السفر في مترو الأنفاق، حيث يتعين النزول في محطة و التحول إلى خط سير آخر ، عدة مرات خلال المسار الوظيفي. و لذلك فإن تلاحق المستجدات و التحولات هذه ستدفع الإنسان المنتج مستقبلا و إذا تسنى له الإفلات من البطالة ، صرف 25 % من وقته المنتج في التدريب و إعادة التأهيل ، أو المرور في عدة تحولات مهنية تقدر ما بين أربعة و ستة تحولات . و يذهب التطور المهني المستقبلي في اتجاهين متكاملين هما تزايد مهن المعلومات الكثيفة من ناحية ، و مهن الاختصاصات المتعددة من الناحية  الثانية ( هندسة و إثارة على سبيل المثال ) . و كلاهما يتطلب قدرات عالية على الانفتاح الذهني على كل ما هو جديد و مواكبته . ومن هنا أصبح الأساس في التوجيه التربوي و المهني ليس مجرد المواءمة بين خصائص المهنة و متطلباتها ، و الكفايات و الخصائص الشخصية ، و لا مجرد بناء مسار مهني  CAREER DEVELPEMENT    ، بل لا بد من  بناء  القدرة على التغيير و التغير، فيما أصبح يعرف تحت تسمية ” اللياقة التكيفية “FITNESS ADAPTABILITY  . فقط أولئك القادرون على مثل هذا التكيف ، و المتمتعون باللياقة المطلوبة له سيكون لديهم فرص البقاء في الحياة المنتجة . و بالطبع فإن ذلك يترك الإنسان تحت ضغوط هائلة تتمثل في فقدان الضمانات الوظيفية ، و فقدان القدرة على التخطيط الواثق للمستقبل ، و ما ينتج عنهما من فقدان السيطرة على الحياة الشخصية و الأسرية و التخطيط لها . لا يدري المرء متى يضربه سيف التسريح مهما كانت كفاءته ، و لا متى يدخل في في فئة المستغنى عنهم ، نظرا لتقادم اختصاصه.

    يقع الكبار تحت وطأة الشدائد النفسية STRESS  الناتجة عن انعدام الضمانات و اليقين المستقبليين حول الوضع المهني ، و بالتالي تدبير أمور الأسرة و الأبناء و الحياة عموما ، في عالم مهني يقوم أساسا على قانون القوة ، و الصراع من أجل البقاء و حدهما . إلا أن و ضع الشباب لا يقل مأزقية مع تسارع تشبع سوق العمل في مختلف الاختصاصات إذ لا تمضي فترة طويلة تتخذ فيها بعض الاختصاصات مكان الصدارة في فرص سوق العمل ( الحاسوب ، تكنولوجيا المعلومات ، الإدارة على سبيل المثال) ، و يتدافع الشباب لدراستها ،أملا ببناء مستقبل  ، حتى يبرز التشبع و يتراكم الفائض من الشباب المؤهلين الذين و قعوا ضحايا الدعايات من قبل مؤسسات التعليم الربحية . و بالتالي يحدث عود على بدء إلى مجتمع الخمس ؛ إلى 20     %  من المحظيين الذين ينالون كل شيء بحيث لا يبقى ل 80%   سوى الفتاة و خيبات الأمل ، و ردود الفعل  غير المتكيفة لما يلحق بهم من هدر ، ناهيك عن اضطرابات صحتهم النفسية .

  و أما الثاني و الأخطر على مستوى هدر الكفاءات ، فهو ينتج عن الإفلاسات الكبرى لشركات عملاقة ، و تسريح آلاف العمال بدون تعويضات ، أو نهب المدخرات التي  وظفوها في أسهم هذه الشركات . فضائح هذه الافلاسات الاحتيالية معروفة تماما في وسائل  الإعلام . حيث يتلاعب كبار مدراء الشركات بأسهمها مستغلين نفوذهم الكبير و تواطؤ مدراء مؤسسات  تدقيق الحسابات الشهيرة بدورها . و هكذا يطير جنى العمر، ضمانة المستقيل بالنسبة لقدماء العاملين ، كما تسد أبواب فرص العمل أمام الكفاءات الشابة . و لقد بدأ الفساد المالي الكوني يستشري ، من جراء هذه التواطؤات بين المدراء و المحاسبين والمضاربين الذين يتلاعبون بكتل مالية هائلة ليست ملكهم أصلا. فإن هم نجحوا في صفقاتهم فإنهم يجنون مكاسب مالية أسطورية بين ليلة و ضحاها . و إن هم خسروا نتيجة المقامرة في صفقات غير محسوبة  فإن صغار أصحاب الأسهم هم الذين يدفعون بالثمن ، بضياع عرق الجبين و كد اليمين ، ناهيك عن تهديد الاقتصادات الوطنية حتى القوية ، وما  تجره من كساد و بطالة أصبحت معروفة للقاصي و الداني . ومن أين لأعضاء هذا التكتل ( مدراء و مضاربين ، و مدققين) القابعين في الأبراج المعمارية  الضخمة و المعزولة عن حياة الناس و المجتمع ، و المأخوذين بإغراءات أرباح عمليات الفساد المالي التي تعمي الأبصار و الأفئدة ، وتحجب كل إمكانية لرؤية ما هو خارج  دوامة المال و الثراء غير المشروع ، التبصر بحياة الناس  و حصانة الأوطان و مستقبل الأجيال الطالعة ؟ لقد أصبح هؤلاء يشكلون قلة معزولة عن واقع حياة الناس ،حيث يعيشون في عوالم خاصة عالية الحماية ، عوالم من المرايا التي لا تعكس لهم سوى واقعهم و أنانيتهم ، ولذلك فهم لا يشعرون بما يسببونه من كوارث اقتصادية وطنية تكون نتيجتها هدر فرص الشباب المستقبلية في المقام الأول ، و الاعتداء على حقوقهم في بناء مكان وحياة  أسرية و اجتماعية منغرسة .

 

 

*جزء من الفصل السادس ” الشباب المهدور : هدر الوعي و الطاقات و الانتماء” من كتاب : الإنسان المهدور:دراسة تحليلية نفسية اجتماعية ” للدكتور مصطفى حجازي،      المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء، الطبعة الثانية،2006، ص: 215إلى 220 .

 

زر الذهاب إلى الأعلى